فاروق سلوم اخذتنا الشاحنة من بغداد الى دمشق صيف 1968 .. كان هروبا او جنونا .. او مغامرة وكانت دمشق تضيء كل صباح من شرفات المنازل .. والدروب العتيقة .. ومن الأماسي التي تعمر كل يوم .. وكان ممدوح عدوان مضيفنا الأول في الكاردينيا ، ضاحكا الى درجة الجنون ، حميما حد البكاء مدخنا طوال الوقت ، يأخذنا في الحديث حتى يأخذنا النهم .
كان قد تخرج قبل عام في القسم الذي ابتدأت ادرس فيه اللغة الأنكليزية ..وكان اللقاء اليومي عند ذلك البار الجميل وسط البلد .. فيما يأتي شاعرنا مظفر النواب متأخرا .. يردد نواحات الناس والجنون .. و كانت اربد تقصف .. والمدن الحدودية تعيش النار والمقاومة الفلسطينية تختبر مواقف الناس .. وكان ممدوح عدوان قد اختار الشعر ليقرر صورة حياته. rnالشعر .. الشعركان مدرج الجامعة يشهد قصائدنا ، ثمة شباب متفجر مثل تلك السنوات الستينية وكان ممدوح يقف وسط المشهد ليرسم صورة جيله الشعري بكل خواصه ومواقفه وثقافته .. الىوم اقرأ ماسجلته من لقاءات شتى حكى فيها مباشرة مرة .. ومرة اخرى للصحافة .. وأخرى للأصدقاء وكأني اسمع صوت ضحكته الهادرة من العصف والتوتر المر ..لم يتوقف ممدوح عدوان - 1941عن كتابة الشعر، بل انه كان يتقلب في سرير القصيدة ، كانت القصيدة حياة يومية وتفاصيل .. وشبق ، وحين كان يكتب مقالاته في جريدة الثورة الدمشقية، وفي الصحف الأخرى فيما بعد ، كانت روح الشعر تمتلك العمود الصحفي الذي يكتبه ، فيما كانت سخونة المبتغي وحرارة القول تحكي عن شاعر مختلف .. الغريب ان ممدوح لم يواصل الكتابة في صحيفة واحدة اذ كان يخشى ان يتكرر، كان يخاف على صورته بل كان يخشى تعّود القراء عليه ، لقد كان مغايرا ، ومشاكسا ، وخلافيا في كل شيء لأيمانه انه على حق .. كان متعدد المواهب حد الذهول يوم كتب المسرحية والقصة والمقالة وترجم عيون الأدب الحديث ..مثلما كانت المقالات الصحفية تحكي عن حداثته واختلافه ..،وتنوعه الخاص - لم أحب التمثيل بسبب النجومية، بقدر ما أحببته كأول نشاط مارسته في حياتي، خارج نشاط المدرسة. منذ الخمسينات قمت بدراسة التمثيل بالمراسلة. كنت أقدم مسرحياتي في مصياف - تلك البلدة التي رسمتني ، ،و كنت أكتب نصوصا مسرحية وأقدمها بنفسي: الى الآن هذه الرغبة مختزنة في اعماقي . وقد صرفت في اتجاهين: الأول القاء الشعر يومها ، والثاني رسم الشخصيات بشكل دقيق في الدراما. ايا كانت الدراما مسرحية، أو تلفزيونية.. وأخيرا في الرواية. أكتب وأحس دائما، أنني أمثل الأدوار كلها، حتى شخصيات النساء كنت اعيش اعماقهن ! الى الىوم وانا أحس أنني ابن هذا العالم؛ وأريد أن أتدخل في كل ما فيه، لذلك أنا أشتبك مع العالم يوميا. ويأخذ هذا صيغا متعددة.. أحيانا أعانقه، أحيانا اشتمه، أحيانا أضربه بالحجارة.. وبالتالى أحيانا أكتب المسرح وأحيانا الشعر وأحيانا الصحافة، فهي رغبة في التفاعل مع العالم. هكذا يحكي عن نفسه ، كانت طفواته مصدرا لبكائه ومشاكساته ، وكان يشتبك مع كل شيء ، لم يكن ممدوح عدوانيا ، كان ممدوح متفجرا صارخا حد الجنون .. كان يظن أن كل كاتب يكتب عن ذاته ، وعن أفكاره. و كل كاتب - ينطوي في اعماقه على كل الثيمات التي يكتبها في عملية خلاص مما هو عليه . وكان يظن ان في داخل الكتاب الكبار كل الشخصيات التي كتبوا عنها. الكاتب لديه ، دائما يهرب من الشاعر ، يكتب عوالم متعددة، هي عالمه هو؛ طبعا هي قدرة استثنائية على الكشف الداخلي. وهذا ليس غني استثنائي، بقدر ما كانت لديه قدرة طبيعية لتأمل داخله بطريقة خاصة في الفن والأبتكار . كان منقبا حد الأذى في اعماقه عن الخلاص في القصيدة قبل كل شيء .. وحين كان يترجم عملا فأنه لم يكن يختار الاّ الأعمال الحديثة التي تبقى حادة التأثير ويرى ان المفكر وهو يدقق انما يتأمل داخله بطريقة مختلفة. فيما الفنان يتأمل داخله فيكشف العالم المليء بالرغبات والنزوات لأنه معني بالمشاعر . وأنا يقول - عندما أكتب عن اللص، فان في أعماقي يوجد لص. وعندما أكتب عن الخيانة يوجد في أعماقي خائن. وعندما أكتب عن الفدائي، أيضا يوجد في أعماقي فدائي، وأنا أكتب أحاسيس المرأة جنسياالمرأة التي اتمثلها في الكتابة لاالمرأة التي احتاجها- يكرر في احاديث شتي . rnمن يتأمل من؟أحيانا يتأمل عميقا ، مثل مفكر فيكتبت أفكارا تؤرقه ، ثم يشتغل مبدعا فينكب على اخفاء نفسه في النص. بحيث لا تبدوان ملامحه تتدخل في قراءته كأنه من الخارج يأتي بعيدا لاتعرف الشاعر بكل ذلك النضج الذي ابتكره منذ وقت . ولكن، في حقيقة الأمر، تكتشف انه كتب هذا العمل لأن له موقفا في الأصل ولغة ولكنة خاصة هي خاصيته. ربما، كان عصبيا ، ولو لم يكن عصبيا الى درجة لاتحتمل كان كتب بسخرية أفضل من التي كتب بها الكثير من مقالاته ومسرحياته ، يقول ان كل اصدقائه يتساءلون عن الفارق بين المرح والسخرية والذكاء في الاجوبة وردود الأفعال الحاضرة في حياته، وبين ما هو أدني من ذلك في كتاباته؟ وهذا صحيح يقول - ربما لأنني أتناول الكتابة بعصبية، والعصبية لا تعطيني الفرصة لأن استرخي مع خبثي، وبالتالى يظهر الخبث في الموضوع وليس في التفاصيل، أتمنى لو أنني أقل عصبية، لأكون أكثر خبثا! كان مثل أي مبدع آخر، مشغول بنقلة فنية يجدد فيها نفسه، ونتاجاته لأنه كان يحس برغبة عارمة للتجدد كلم
ممدوح عدوان.. حامل هموم الناس
نشر في: 21 مايو, 2010: 04:28 م