علي عبد العال أول مرة قابلت فيها الشاعر الراحل ممدوح عدوان كانت في دمشق أواسط الثمانينات، وآخر مرة كانت منذ بضعة أشهر في دمشق أيضاً. كنتُ أعمل في مجلة "نضال الشعب" الفلسطينية آنذاك. جاء إلى المكتب الواقع في ساحة الميساء بقلب العاصمة دمشق،
وبدا رائعا وجميلاً وحيوياً مثل مسرحياته وشِعرهِ ومقالاته الحارة. شَعره الأسود الجميل المنسدل على جبين ضيق ذكي، لا يشبه جبين الفرسان الرومانسيين في الكتب، وإنما هو الأقرب إلى وجوه أبناء البلد النزقين، الأذكياء، الجريئين، المتمردين. نظرات خاطفة وحادة تغسل الواقف أمامها بسرعة جنونية تفوق سرعة الضوء، تعرف وتكشف مباشرة بعض الشيء الداخلي، rnوتحيط بالملمح العام بومضٍ برقي لا تشفع صراحته وصرامته سوى ضحكة خجولة وبسمات تنطلق من فم واسع مزموم دوما على شكل ابتسامة غامضة.كنت أعجب أن أراه في هذا المكتب الصحفي الذي أعمل فيه؛ لقد جاء لقضاء شغلة أو متابعة مقال يخصه في المجلة. لكن شغف الصحفي الشاب العراقي القادم من بغداد المحتقنة بالصمت والخوف لم يتورع عن إظهار الفرح بلقاء شاعر مشهور تُعرض مسرحياته على صالات الفقراء والتقدميين السوريين كصالة "القباني" وغيرها. فعرضتُ عليه مباشرة إجراء حديث صحفي يخص المجلة منذ اللحظة الأولى. شعر كذلك بالفرح والغبطة وشرب الشاي سريعا بانتظار موعده، لكي يغيب مع رئيس التحرير، وخرج دون أن أعرف متى، حتى أنه لم يسال عن الصحفي العراقي الذي أراد إجراء مقابلة معه. ربما ترفعا أو تواضعا، لا أدري الآن. بعد حوالي العشرين عاما أراه بشكل مختلف تماماً في مكتب الشاعر السوري بندر عبد الحميد بدار "المدى للثقافة والفنون" بدمشق. لا أخفي جزعي وحزني وعدم إمكانيتي على تقبل الأمر كما هو. ذُهلتُ تماماً من عيني وهي ترى مظهر ممدوح عدوان بهذا الشكل الغريب. كرهتُ تقبل هذه اللحظة، الصدمة، وكنتُ أفضّل الهرب على رؤية شاعر جميل يمر بمثل هذه المحنة. لم أخبر الصديق العزيز الشاعر بندر عبد الحميد بهذه التفاصيل التي أكتبها الآن، ولم يفهم سبب هروبي من المكتب الذي كان يضم العديد من الشعراء والأصدقاء الآخرين. كان ممدوح أصلعاً وسميناً بحيث لا يشبه نفسه ولا يشبه روحه ولا قصائده. أو هكذا خيل إليّ الأمر. لعلي كنتُ أحلم أن أراه بأفضل حال. أو على الأقل أن لا أراه على الإطلاق هكذا عن طريق الصدفة من دون الاستعداد لفهم الوضع جيدا. ومثلما تركني في مكتب نضال الشعب وغادر من دون إحساسي غادرت المكتب بذات الطريقة، من دون إحساسه، بيد أن الألم كان يعتصر روحي إلى حد الرغبة المجنونة بالبكاء سخطا على الزمن.تصورت أن بالإمكان الهروب من العاقبة، ومن الحقيقة بمجرد الشعور بالألم والبكاء. لا يجدر بالإنسان الهروب من الحقيقة مهما كانت لعينة وقاسية ومحرجة. لكنني كنتُ أقضم هذه الحقائق السرية بقلقٍ وبمزاجٍ عصبي كما يقضم طفل قلق أظافره الصغيرة في حضرة معّلم. هاهو يموت ويرحل ليلقى الظلام الرحيب. بينما نبقى نحن نعيش في نور الهروب الأبدي الواسع، الخالي من الرحمة..بعيداً جدا ونائياً، بالقدر الذي لا يسمح لي حتى بإلقاء وردة حمراء صغيرة مثل قبلة حارة على نعشه، أو على قبره. أنا نفسي أعتقد أنني متُ من زمان لولا هذا الطبيب الغجري الحقيقي الشاعر الساحر بندر عبد الحميد، الذي له طاقة طبيعية هادئة تبث الحياة والروح الجديدة في الأشياء الخاملة. كنت أذبل مثل رأس فجل مضت على قطفه عدة أيام وأنا في الطريق إلى الأهل في العراق بعد ربع قرن من الغياب. فكان يأخذني إلى "سوق التنابلة" في الشام. وكنت أظن أن البائعين هم التنابلة، وظهر العكس مما كنتُ أظن بالضبط، كما يحصل لي عادة مع الظنون على الدوام. حيث أن المشترين هم التنابلة، وقد أعد لهم البائعون كل الأغراض الجاهزة. لا يحتاج من الزبون سوى وضعها في المكان المناسب، وغالبا ما يكون هذا المكان هو الفم. سوق أشبه بأجواء قصص ألف ليلة وليلة. لا ينقصه حتى الحرامية والفرسان الرائعين على غرار علاء الدين والفانوس السحري. وهو يتسوق الخضار الطازجة، الرائعة، التي تكفي رؤيتها بث الروح في الأجساد. طماطم حمراء ريانة، خيار ماء فيه رائحة نفاذة طيبة وبقايا طين أحمر عظيم. هندباء تعاندك بشكلها العشوائي ومذاقها الحريف الغريب، رؤوس بصل خضراء غضة مثل أصابع أطفال أزقة نحيفة تقاوم البرد، باقات بقدونس صغيرة، حية، لم تمر بعد بمرحلة الذبول. كنتُ أظن أنني سأموت قبل أن أرى هذا العرس الجميل من الخضار الطازجة التي تنقل روحي للحقول بكل ما تحمله من الصفو والنقاء وتعب الناس الفقراء. كنا نحمل الأكياس ونعود مشيا إلى داره القديم عبر دروب ضيقة في حارة دمشقية عتيقة خلف سوق الصالحية الشهير. هناك تعود بعض أجزاء روحي القديمة الضائعة إليّ مرة أخرى. وتزهر الدار الصغيرة بنجومٍ صغيرة لامعة من الأحباب والكتاب والفنانين الطيبين، لكن لم أكن قد رأيت ممدوح عدوان في بيت بندر ولا مرة عن طريق الصدفة. وكنت أسمع فقط: "إنه مريض" حتى جاء ذلك اليوم الذي هبطت فيه السلالم الصغيرة للسلام على بندر عبد الحميد كما كنت أفعل بين يوم وآخر وشاهدت ممدوحا وهو يتوسط حشدا صغيرا من
ممدوح عدوان.. الروح الحية
نشر في: 21 مايو, 2010: 04:31 م