TOP

جريدة المدى > ملحق اوراق > حامل الكتاب

حامل الكتاب

نشر في: 22 مايو, 2010: 04:35 م

محمد خضيرظهر الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في صورة التقطت له قبل وفاته، جالساً امام كتاب مفتوح، ولهب شمعة يبصبص في عمق الصورة، فيما كان رأس الفيلسوف مزورا عن كتابه ناظراً في بؤرة افكاره الغائبة عن الصورة بعينين ثاقبتين، يكرر دريدا في جلسته الوضع المتأمل للقديس اناستيوس في لوحة رامبرانت (1631 –متحف ستوكهولم الوكني)
 ويحضر بدلاً من "الفيلسوف والكتاب المفتوح" في لوحة رامبرانت الاخرى (1633 –متحف اللوفر) مستعيرا من رسام الظلمة والنور، ومن ديلاتور الملقب برسام الشموع والجفون المغمضة ، لقب "قارئ الكتاب" الشارد بنظره عن صفحات الكتاب المفتوح بين يديه، الا ان دريدا بانتسابه الى خلفيات رامبرانت وديلاتور المعتمة، بانتزاعه النور من شمعة القديسين المصورين في ايقونات عصر النهضة، بازوراره عن كتابه، باستغراقه في الحقيقة الغائبة عن المشهد، سترتحل صورته الى مرتبة "اصحاب الكتاب" اولئك الذين اصبحنا بفضلهم "حاملي الكتاب" بعد ارتحالهم عن دنيانا. سأروي اولا كيف يكتسب المرء لقب "حامل الكتاب" قبل ان اشفع هذه الفكرة بذكرياتي عن كتابي الاولن الذي نسبني الى النخبة التي استحق افرادها لقب "صاحب الكتاب" واعتقد ان اشخاصا اخرين يملكون افكارا مماثلة عن هذين اللقبين حامل الكتاب، قارئ متنقل، عارض للكتب التي يحملها في يده بالدرجة الاولى، تظهره صورته الى جانب وسطاء الكتاب المتعددين ضائعاً في وسطهم، وصاحب الكتاب، مؤلف له على وجه الخصوص تظهره صورته وحيدا وسط العتمات والشموع، ايقونة على مذبح معبد، يختار حامل الكتاب المكان واللحظة اللتين يظهر فيهما على الملأ ، كي ينتزع الكتاب الذي يحمله الصعقة من عيون الناظرين الا انه سرعان ما يدخل في شرود الايقونة التي تصوره غائبا عن الحاضرين، مغادرا موقعه بينهم راحلا عبد الحدود الاقليمية يقايض مصيره بكتابه كما قايض لاو تسي صاحب كتاب (تاو تي كنج) رجال الجمرك بكتابه، كي يسمحوا له بمواصلة السفر على دأبه مع تلميذه اصبح صاحب الكتاب لاو تسي بهذه المقايضة "حامل كتاب" تجيب اشعاره عن اسئلة الطريق بكلمتي "نعم" و"لا" حسب مشيئة القارئ الموافقة او المعارضة من دون الزام او إكراه. وقيل ان الفيروز أبادي كان يسافر بصحبة احمال من كتبه وان كتب الامام احمد بن حنبل بلغت اثني عشر جملا، دلالة على ان اصحابها هم حاملوها ايضا. قبل ان اروي حادثتي عن حامل الكتاب ، سأعرج على وسطاء الكتاب: خازنه وبائعه ومجلده، والى هذا الاخير ينتهي الكتاب كي يرممه، ويضفي عليه مظهرا مكتبياً مهيباً، يذهب الكتاب بعدئذ ليخزن في المكتبة بكعبه الجلدي، يصنف ويرقم قبل ان يعار الى قارئ مؤقت، يحمله الى حين ولا يتيسر له ان يتملكه، شأنه في ذلك شأن وسطاء الكتاب، لكنني كنت على استعداد للتنازل عن القاب ملكيتي لمجلدي الكتب مقابل ان يسمحوا لي بمشاركتهم محترفات عملهم، اراقبهم يعملون واستمتع بأكداس المجلدات المرصوصة تحت المكبس الحديدي الثقيل، او تلك المهيأة للخياطة والتغليف، بعد طواف يومي بين ارصفة باعة الكتب في سوق البصرة القديمة، كنت افوز بجزء مفقود من معجم او موسوعة متعددة الاجزاء احمله مسرعا الى دكان مجلد بارع لا أبرحه الا وانا احتضن كتابا سلخ جلده القديم وغطي بجلد طري خشن الملمس، لطالما احببت الاغلفة الخشنة التي تمنح الكتاب شكلا بدائيا يكتم الانفاس، واحساسا بأن قرءاته تعني احياء لقوى العلامات المستكنة بين الصفحات، كأنها نذور معبد، أوحى لي عمل المجلد المتعدد المراحل بمفهوم الانقضاض على الكتاب الخرز والخياطة والتصميغ، ثم الكبس الشديد، تشذيب الورق، قبل حمله وامتلاكه خرجت من دكان المجلد وفي يدي المجلد الثاني من معجم (المساعد) للاب انستاس ماري الكرملي في غلاف اسود محبب، جمع الاب الكرملي مادة معجمه من المستدركات التي دونها، بحروف وعرة، على هوامش المعاجم اللغوية في خزانته جرب الكرملي عمليات المجلدين بالانقضاض على ملاحظاته المتفرقة على الصفحات، يسلخها ويكبسها ويغلفها، سأغير مثله على مواد معجمه فأحشوها بهوامشي ، الهوامش التي ستمد نصوصي بعصارات لغوية تتوجني بما توجت الاب الكبير، فأستحق لقب "صاحب الكتاب" كما استحقه من جمع اشتات المعاجم وهوامشها وهل اكثر من صورة باقية للاب انستاس الكرملي بلحيته الطويلة اشارة دالة على الوجود المكتبي الذي انشأه في دير الاباء الكرمليين ببغداد؟ كنت اسرع الخطى وهنا ادرك الحادثة التي بدأت من دكان مجلد الكتب سابقا الليل الى مرأب الحافلات المتطرف في ناحية من السوق القديمة، في ليلة من شتاء الاعوام التسعينية السالفة (المجدبة والحزينة) اخترت العودة الى البيت في حافلة عمومية من مجموعة حافلات صفر، نوع "شوفرليت" (بلو بيرد) مخصصة لنقل الطلاب، حولت الى الخطأ الذي ينقل العامة من من مرآب السوق وكانت الساعة المتباطئة قد احتجزت اخر حافلة منها بانتظار اخر راكب تلفظه السوق، انزويت تحت مظلة الانتظار المحاذية للحافلة المتوقفة، أنقل كتابي من يد الى يد، مراقبا امتلاء المقاعد عن اخرها بالهموم والاثقال، بعدول وزنابيل فاكهة وخضر، بأكف فارغة واخرى بمخروط

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

دستويفسكي جوهر الروح الإنسانية

دستويفسكي جوهر الروح الإنسانية

لكن الفكرة المركزية التي سيطرت على دستويفسكي كانت الله والذي تبحث عنه شخصياته دائما من خلال الأخطاء المؤلمة والإذلال.يقول دستويفسكي على لسان الأمير فالكوفسكي في رواية مذلون مهانون (.... لكنك شاعر ,وأنا إنسان فان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram