لطفية الدليميمحنة كثير من المثقفين - وأخص الكتّاب والنقاد وحشدا من الشعراء والرسامين والمنظرين - هي انشغالهم بالتجريد، وانهماكهم في صوغ المعاني ونقد السائد وملاحقة المصطلح، وترويض العبارة، بينما المجتمع يتهاوى او يتعرض للفتك والتفكك والتشرذم، محنتهم الأخرى أنهم في غالبيتهم (أدركتهم حرفة الأدب) –
باستثناء من ربطوا جيادهم الى عربات السلطة- في كل آن ومكان، لذا تجدهم يصِلون الليل بالنهار ليحققوا لأنفسهم قدرا من كرامة العيش يساعدهم على المضي في صوغ الافكار ونقد السائد وترويض اللغة، بمعنى آخر، إنهم يدورون في حلقات مفرغة من التجريد الحياتي والإجرائي، تحول بينهم وبين الإنجاز التضامني مع الجموع المنتهكة والمجوّعة والمهمشة في أوطانها، وإن وجدنا قلة منهم تحاول إسداء العون الإنساني لمن هم أقل حظا في الحياة، فإن البعض الآخر يستنكف ذلك مستسلما لوهمه البائس عن الشهرة وأضوائها وأبراجها الهوائية وأرى منهم الكثرة الموهومة بشهرتها وانتفاخها البالوني .غير ان هناك بيننا من المثقفين الصموتين الفاعلين بعيدا عن ضجيج الاعلام وادعاءات الريادة في شيء ولايعنيهم إسباغ الألقاب الفارغة عليهم كما يفعل البعض ممن يزدحم بهم المشهد العام ، الصموتون ممن نسميهم ملح الأرض، ليسوا بالمدّعين ولا المبتغين شهرة أو مالا أو جوائز، يعملون ليل نهار في خدمة الأشخاص الأشد حاجة، ممن دمرت الحروب والسياسات الحمقاء في العراق حيواتهم، ووجهت مصائرهم نحو الخراب، ويجهدون ليكون الإنسان في -أقل تقدير- ضمن موقع يجنبه الأذى ويحفظ له بعض كرامة إنسانية، وإن في بلاد غريبة. سيدة عراقية نضرة وهي في الستين- بعقل متفتح ورؤية إنسانية وجمالية عالية، أطاحت ثورة 14تموز بعائلتها المرموقة، وأورثتها جرحا لم يكن ليندمل، لولا قوتها وبأسها وإصرارها على أن تحتفظ بتوجهها إلإنساني ونقاء ملحها, مثقفة مجادلة وقارئة ممتازة بلغات عدة تفوق في ثقافتها واطلاعها الكثيرين من دعاة الثقافة ،تعتزم تدوين تجربة حياتها الثرية في رواية او مذكرات ، لكن انغمارها في الأنشطة الإنسانية يدفعها لتبحث عن المتعبين والحزانى والذين جرى استغلالهم لتنجدهم وهم في متاهة الضياع ، دون النظر إلى دينهم او عرقهم أو قوميتهم او خطيئتهم , تراها تعدو بين الجهات الدولية والسفارات والمنظمات الإنسانية لتوفر علاجا لسيدة او لمجموعة أطفال من مصابي السرطان والحروب، او تساعد في البحث عن بلاد لجوء لمن يهددهم العنف والتطرف الديني والطائفي والتفكك الاجتماعي، أو توفر سكنا لأسر تعيش مشردة في الأزقة. هذه السيدة التي توقف التاريخ النفسي لديها عند سقوط الملكية وهي صبية صغيرة، تتمسك بالعراق حد التشدد، وترفض ان تستبدل بجوازها جوازا تستحقه من دول اعترفت بجهودها الإنسانية الكبيرة ومكانتها ،بمثل هذه السيدة تدوم الإنسانية وتواصل رقيّها وسط التوحش والعنف والإرهاب والجشع، ومع أمثالها من المثقفين الفعّالين يمكن للحياة ان تطيب بملح الارض النقي - فهم الذين اختاروا أن يكونوا أقوياء بالمحبة، لا بالحقد ونقد السياسات والتعالي على البشر بشهرة بائسة، هم بحر من الماء الرائق الذي يمثّل الإنسانية في تجلياتها الثقافية الأسمى، ممارسو ثقافة المحبة وقوة الروح. «الكراهية تقتل دائماً، الحب لا يموت ولا يفسد، ما نجنيه من الحب يبقى إلى الأبد، الذي نحصل عليه بالكراهية يصبح عبئاً لأنه يكرس الكراهية». هذه مقولات للمهاتما غاندي، أحد رسل المحبة الكبار في عالمنا، ولأن السيدة من دعاة اللاعنف، ومروجي المحبة في حياتنا، أطلقت على ابنها اسم غاندي.. لقد حوّلت هذه المرأة معارفها واللغات العالمية التي تجيدها ومأساتها أساسا – الى فيض من حب للإنسانية، ولم تدع الحقد على القتلة يُفسد ملحها، بل تعالت على جراحها وجعلت حماية الروح الإنسانية غاية أفعالها.نعم،النص يمتع، والرواية تسعد قراء، ً والمقالات تحرّض والنظريات تحفّز, لكن توظيف الثقافة الشخصية في الفعل الإنساني هو الاستثناء، وهو الرواية الأروع التي لا ترمي الى شهرة أو كسب أو تداول نفعي أو قيمة مضافة، لأن القيمة متضمنة في التكوين الروحي للمرء الذي يحمل سر ملح الأرض ، إنها لرواية جليلة نقرأها بصمت وخشوع ودون ترويج دعائي، كما يفعل بعض المثقفين المهووسين بالشهرة، ولن أذكر اسم السيدة جميلة الروح والوجه والأفعال والحضور- لأنني لم استشرها في الكتابة عنها وهي أساسا من الزاهدين.
قناديل :بـين الثقافـة ومــلـــح الأرض

نشر في: 22 مايو, 2010: 05:48 م