أحمد فاضل لم يتعرض كاتب او شاعر للاهمال والنسيان كما تعرض له اديبنا وشاعرنا جبرا ابراهيم جبرا هذا الانسان الرائع بكل معنى الكلمة ، صائغ القوالب الادبية التي توزعت بين قالب روائي وشعري وترجمة وفن تشكيلي ونقد . جاء يحمل صرة سفره الطويل من بيت لحم بفلسطين تاركا" وراءه ضيعة صغيرة تظللها اشجار الزيتون هي كل ماكان يملكه جده لابيه ،
ولم يكن بيت المقدس ليبعد عن تلك الضيعة سوى فراسخ معدودة لكنه اصبح الان في نهاية العالم بعد ان حط رحاله في بغداد او كما كان يصف تلك المسافة ..ولد في عام 1919 من أب سرياني ارثو ذكسي الاصل في بيت لحم بالقدس وما ان تعرف على كنائس المدينة التي تلتقي مع مساجدها بحائط واحد حتى شعر بأقدام اليهود وهي تجوس تلك الاماكن فحمل حقيبته مسافرا" يتبعه الالاف من ابناء فلسطين حتى كانت بغداد في اربعينيات القرن الماضي ملاذا" له ومنفى ..كان اديبنا الشاب قد تسلح بالعلم فلاغرابة ان تتلقفه جامعات العراق ليدرس فيها الادب الانكليزي ، وهناك تعرف على النخبة المثقفة فعقد علاقات متينة مع اهم الوجوه الادبية التي كان لها حضور متميز ليس على المستوى المحلي فقط بل على المستوى العربي وخاصة الشاعر بدر شاكر السياب (1926-1964) وعبد الوهاب البياتي ( 1926-1999) فكانت له معهم جولات ادبية اتسمت مرة بوشيجة نقدية لديوان السياب (شناشيل بنت الجلبي ) او بمماحكة هي اقرب منها للكوميديا السوداء لقصائد البياتي الذائعة الصيت ، فكانت تلك الجولات تعرف طريقها الى الصحف والمجلات الادبية التي صدرت في بغداد وبقية المدن العربية خاصة مصر التي كانت مرتعا" خصبا" لادب الرواية والنقد قبل ان يعرف الشعر الحديث مكانه اليها ..في هذا الجو الادبي المشحون بغرائبية الموقف استطاع جبرا ان يقدم للقارئ العربي تعريفا" بأهم الكتّاب الغربيين وعرفّهم على المدارس والمذاهب الادبية الحديثة ولعل ترجماته لشكسبير (1564-1616) من اهم تلك المعاريف وكذلك ترجماته لعيون الادب الغربي مثل نقله لرواية ( الصخب والعنف ) التي نال عنها الكاتب الامريكي وليم فوكنر ( 1897-1962) جائزة نوبل للاداب ، ولم يقف كاتبنا عند حدود الترجمة بل اشتغل في الشعر وفي الرواية ومن اهم اعماله :- السفينة / البحث عن وليد مسعود / عالم بلا خرائط بالاشتراك مع الكاتب المبدع الراحل عبد الرحمن منيف ( 1933-2004) وكذلك كانت له صولات وجولات معروفة في مجال النقد ويعتبر جبرا ابراهيم جبرا من اكثر النقاد حضورا" ومتابعة في الساحة الثقافية العربية .ولم يكن مقتصرا" على الادب فقط بل كتب عن السينما والفنون التشكيلية علما" انه مارس الرسم كهواية وله لوحات جميلة توزعت على اصدقائه ومعارفه ولم يسع احد منهم لجمعها وضمها في معرض موحد وهذا مما ساعد على نسيان جانب مهم من جوانب ابداعاته .اما كتب الدراسات فله ستة منها :- ترويض النمرة التي تعتبر من اهم كتب الدراسات التي نشرت وحازت الاعجاب والرمز والاسطورة وما قبل الفلسفة هذا من جانب اما رواياته فله اكثر من 9 روايات ابرزها :- البحث عن وليد مسعود التي صدرت عام 1978 / صراع في ليل طويل عام 1955 / السفينة عام 1970 / اما مجاله الشعري فقد اتسع لثلاثة دواوين هي :- تموز في المدينة / المدار المغلق / لوعة الشمس ، وهو في كل ماكتبه قدم صورة قوية للايحاء والتعبير عن عمق واوجه مأساة شعبه في فلسطين وتلك الغربة التي كان يعيشها مرغما" برغم كل هذا الفيض من الحب الذي غمره بها اهل بغداد .وبعد كل هذا الذي قدمه اديبنا من جهد خلاق طويت صفحته الناصعة البياض بوفاته عام 1994 وكانت صورته الاخيرة التي ظلت عالقة في ذهني هي في لقائه باحد مصارف بغداد متهيئا" لتسلم راتبه التقاعدي فمددت اليه يدي مصافحا" ولم اكن اعلم ان ذلك اللقاء سيكون اخر عهدي به وكما جاء حاملا" حقيبة سفره الى منافي الغربة هاهو يتوشح بساطه السحري ليسيح في عالم اللاوعي ، عالم اردنا فيه ان نبحث عن تغريبته الاخيرة فلم نعثر الا على شجرة زيتون كان قد زرعها قرب بيته ولاندري هل سألت عنه ؟ تلك هي المسألة !!rn
جبرا ابراهيم جبرا..التغريبة الأخيرة لحامل الزيتون
نشر في: 26 مايو, 2010: 04:58 م