انتوني شديد *ذكر تقرير العقيد حسين الذي دون حادثة انفجار سيارة مفخخة امام السفارة المصرية في بغداد في نيسان الماضي، ان الاضرار المادية المهمة كانت مقتل سبعة عشر شخصا واحتراق عشر سيارات، اضافة الى احتراق البيت الذي كان امام السفارة واصابة عشرة بيوت من تلك التي تحيط بها باضرار معتدلة.
لكن تقرير العقيد حسين لَم يذكر مئات الكتب، من مسرحيّات تشيكوف إلى روايات الكاتب الفلسطيني غسَّان كنفاني، المخزونة في حقائب وصناديق وفي باحة السلم. وهو لَم يتكلم عن رسوم شاكر حسن آل سعيد هناك، وهو واحد من كبار فناني العراق. ولم يتطرق الى منحوتات زميله محمد غني حكمت. وما كانت هناك من ملاحظة عن الحجارة التي تم جلبها من مدينة بيت لحم مكان مولد جبرا ابراهيم جبرا التي نفي منها وساعدت في بناء البيت ليكون ملاذا عالميا وجسرا بين الشرق والغرب.وكذلك لم يشر تقرير العقيد حسين للبيت بوصفه عائدا للروائي والشاعر والرسام والناقد والمترجم العربي المعروف جبرا ابراهيم جبرا والذي بناه، قبل نصف قرن تقريبا، في شارع الاميرات وعاش فيه لحين موته عام 1994.وهذا المقال ليس خبرا لكي ينثال الحزن على دمار المنزل. لكن لم يكن هناك من احتفاء بالميت. وكانت بضعة تعبيرات تدل على التقدير مثل قول الناقد فاضل ثامر «لقد رأى الناس هنا الكثير من الاشياء».لكن في همسات الأصدقاء والزملاء، الذين يتذكرون جبرا وهو يستمع الى باخ اثناء الكتابة، ودخان غليونه يحوم في الغرفة، فان المنزل يمثل شيئا عظيما جدا قد تمت خسارته. والبعض منهم يعتبر دمار المنزل مثل المراثي التي تكتب على شواهد القبور لتنعى غياب الانواع، ونهاية لعصور في العراق والعالم العربي، ولأفول المثالية، التي مثلها جبرا ايام النزاعات والحروب.ولد جبرا في 1919 لعائلة مسيحية، واستقر في بغداد بعد حرب 1948َ. نال درجة علمية من كامبردج، مما اهله للدراسة في هارفارد، وفي السنوات اللاحقة انضم إلى النحات جواد سليم والجيل الرائع من الفنانين الآخرين الذي جعلوا العراق رائدا للثقافة العربية.وكان جبرا بين الاكثر بروزا. وبوصفه كاتبا فان عمله الذي لاقى الترحيب هو تحديث الرواية العربية. وبوصفه لغويا فانه ترجم كل شئ ابتداء من سونيتات شكسبير الى رواية فولكنر «الصخب والعنف».ويقول روجر ألين، أستاذ الأدب العربي في بنسلفانيا والذي كان صديق جبرا وساعد في ترجمة اثنتين من اشهر رواياته «كان مثالا حيا في عملية الترجمة، فهو يأخذ شيئا من ثقافة ويحمله بشكل حرفي عبر الخلافات، ليضعه في ثقافة اخرى».وبيته البسيط ذو الطابقين المحاط بعطر فلسطين اشجار البرتقال، كان يعكس ذوقه. ويتذكر صديقه النحات محمد غني حكمت ان جبرا وضع واحدة من منحوتاته الخشبية على الموقد والاخريات كانت في المدخل وغرفة الطعام. اما صديقه الناقد مجيد السامرائي فيتذكر لوحات الفنانين العراقيين مثل راكان دبدوب وسعود العطار ونوري الراوي، ويقول «كيف اصفه؟ لقد كان البيت معرضا للفن العراقي».وفي أغلب الأحيان كان البيت تملؤه الموسيقى التي يعتبرها جبرا الفن الوحيد الصافي. وفي احدى المرات كتب جبرا لصديقه روجر آلن «اي موسيقى ستجلبها معك ستجعلني سعيدا وخصوصا موسيقى القرن الثامن عشر وتلك الاقدم. وعندما ستزورنا ستجد اني املك القليل منها جدا، انها حرفيا خبزي اليومي انها تمد عقلي وكتاباتي بالحياة».لقد كانت ابواب بيته مفتوحة دائما. ويقول اصدقاؤه انه هو من اقنع الروائي عبد الرحمن منيف ليكتب «مدن الملح». ويتذكر عيسى بلاطة استاذ الادب العربي المتقاعد في جامعة مكغيل في كندا والذي كان صديقا لجبرا لفترة طويلة ان صالونه المتسم بخاصية ثقافية نبعت من عقله كان مفتوحا دائما للشعراء والفنانين والمفكرين وسواهم.وعندما مات جبرا عام 1994، انتقلت قريبته رقية ابراهيم الى المنزل. ويتذكر مجيد السامرائي انه اخبرها «ان كنوز جبرا بين يديك».لكن الارث تحول الى ركام، ولايزال دم السيدة رقية ابراهيم يلطخ الجدار حيث سقطت قتيلة بفعل القنبلة المتفجرة التي فصلت رأسها عن بقية جسمها، ودفنت في الانقاض لمدة يوم كامل قبل ان ينتشلها عمال الدفاع المدني. وهناك لافتة معلقة على البيت تنعاها وابنها جعفر المقتول معها. ويعتقد السامرائي ان نحو 10 آلاف من رسائل جبرا احترقت في الارجح. وهناك تسجيلات لشوبان وباخ وفيفالدي سُدَّ عليها المدخل، وتجمع التراب على مسجلة صوت قديمة. اضافة لصورة بالاسود والابيض لطالبات من صف في جامعة بغداد يرتدين التنورات القصيرة. وكان في باحة السلم ملحق التايمز الادبي البريطاني يعود لتاريخ 16 نيسان 1993.ولم يتبق سوى بضعة صور احداها لجبرا يرتدي سترة زرقاء ووشاحا أحمر والغليون في يده. ويقول السامرائي والجيران ان النهابين سلبوا كل الاشياء الثمينة في البيت وبضمنها الجواهر الثمينة للسيدة ابراهيم بعد وقوع الهجوم.وبقيت وسط الانقاض صورة من مقتنيات السيد جبرا ابراهيم جبرا لطلاب صف من جامعة بغداد.وتُرِكت الكتب العربية والانكليزية (لم تسرق) الشهيرة ومنها «صورة سيدة» لهنري جيمس و»ا
تفجير السفارات دمر «نصف قرن» من ذاكرة بغداد... والحادث مر مرور الكرام
نشر في: 26 مايو, 2010: 05:00 م