TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > خارج العاصمة .. قوّة الأسماء

خارج العاصمة .. قوّة الأسماء

نشر في: 31 مايو, 2010: 05:16 م

محمد خضير"إلى أرض الأحياء، أعلن السيد عزمه على السفر،السيد (جلجامش) صمم على المضي إلى ارض الأحياء،فقال لخادمه (أنكيدو): يا أنكيدو، إن الآجرّ والختم لم يعلنا بعد النهاية المقدرة،     لقد عزمتُ دخول تلك (الأرض) وأريد ان أخلّد اسمي (هناك).
في المواضع التي أقيمت فيها (الأسماء) سأقيم اسمي،وفي تلك المواضع التي لم تُقم فيها الأسماء بعد، سأقيم أسماء الآلهة." rn(من ألواح سومر في الألف الثالثقبل الميلاد)أين تكمن أصول الأسماء المتغيرة، التي خلدت كرموز للقوة والخصب والموت؟ حقاً إن عالمنا اليوم تحكمه الأسماء المجموعة في حاسوب كوني مملوك لقوة خفية عظمى. وهذا الفرض شبيه فرضنا بأن العالم القديم ربما حكمته الأرواح العملاقة. كانت الأقوام الساميّة والحاميّة تحتمي بقوة الاسم، وكان سرجون الأكدي (2500 ق.م) ـ ملك العالم القديم ـ  يملك أسماء إضافية بعدد أسماء الإله مردوخ الخمسين، وسميّت مع الملكة كليوباترا أكثر من ثلاثين امرأة في مصر البطلمية بهذا الاسم. وراء هذه الأسماء تتحرك صفات، وتسيطر كُنى وألقاب على مصير الملوك المنتسبين إلى أجداد عمالقة، كهذا الاسم الكنعاني (نعمن غلم إيل) أي (نعمان= الجميل الناعم غلام الإله)، أو كهذا الاسم الآرامي (كيلامو برحي) أي (كلمو بن حيّ)، أو الاسم السبأي (كرب إيل وتر)، أو الاسم النبطي (عبد دوشرا) أي (عبد ذي الشرى) وذو الشرى صنم، أو اسم الملك العربي (امرئ القيس بن عمرو). أستطيع أن أتحكم بقارّة سردية واسعة، فيما لو امتلكتُ سلطة التحكم بأسماء شخصيات قصصي، وتركيب سلسلة أسماء تمتد جذور الواحد منها إلى (أرض الأحياء) القديمة. لا أعرف المصدر الوثائقي أو الشفاهي الذي يكوّن القصاصون منه أسماء شخصياتهم، فقد يكفيني قاموس مثل (المنجد في الأعلام) أو كتاب في (الأنساب) كي أكوّن اسماً طويلاً مضارعاً لأسماء المقامات والسير الشعبية. أما إذا تبعتُ طريقة قصاصينا الذين طاردوا شخصياتهم المهاجرة إلى المدينة، فقد ألجأ إلى وثيقة مواريث تقسـّم حقوق مئات الأسماء ذات الأصول الطوطمية، وانتزعُ هذا الاسم منها: بريس بن حطحاط بن صخل الرويثي. لكن اسماً مثل هذا لن يدخل قصصنا إلا بجهد جهيد ومطاردة مهلكة، فحاسوبنا الكوني الذي يجمع أسماء الكائنات البشرية قاطبة ويحدّث بياناتها ساعة بساعة سيكون لنا بالمرصاد قاطعاً الطريق أمام رحلتنا الخاصة إلى أرض الأجداد العمالقة. إننا نفقد يوماً بعد يوم الصفات الفريدة التي ألهمت جلال الدين الرومي عشقَ اسم صاحبه وأستاذه شمس الدين التبريزي في هذا البيت الشعري: "وحديث شمس الدين مفخر تبريز الصفاء، يجده المزاج الحار، وليس هذا بعمل الأفاويه". ونحن نجد مع الاسم المعشوق حديث الصفات المذخورة في أسماء (امرئ القيس) و(ذي الشرى) و(ذي حي)، تلك التي يستنزلها (المزاج الحار) من عالم الأرواح العملاقة. رأى الدكتور إبراهيم السامرائي في دراسة عن (الأعلام العربية) أن قرويي جنوب العراق يطلقون على أولادهم أسماءً لا معنى لها من قبيل (مرداو) و(شليهم) و(شبرم)، وقد نجد بينهم من يختار لولده اسم (بلاسم) الذي يعني (بلا اسم) إمعاناً في إخفاء حقيقة الشخصية، أو تغليفها بهوية متعددة المعاني، لغرض يلتقي بالتفكير الأرواحي القديم. ثم لمّا هاجرت هذه الأسماء من مناطقها الأصلية إلى المدينة، بحثاً عن العمل أو طلباً للعلم، اقتبسها القصاصون ليوشّوا بها حياة شخصياتهم المقطوعة الجذور عن مواطن الآلهة. امتهنت الأسماءُ المهاجرة أعمالاً وضيعة، وسقطت من عليائها في قاع المدينة. فالمهاجر الذي سرق أسرار الآلهة، وتخفّى وراء أسمائه المتعددة، عوقب بحبسه مع المخلوقات الشقية الضائعة في جحيم العالم الأسفل. لم ير قصاص المدينة سوى المظهر واللهجة والسلوك الفطري الفظ من سليل الآلهة، لأن اسمه الطوطمي حجب عنه حقيقة (المزاج الحار) وراء تلك الصفات واللهجات. دفعت الأسماءُ المهاجرة ثمناً مضاعفاً لقاء اندماجها بعالمٍ سردي واهي الجذور، ودخولها إلى الحاسوب الاجتماعي مع الشرائح الفقيرة المطالبة بالعمل الوظيفي والترف المديني. كان شرط اندماجها مرهوناً بتخلّيها عن غطاء أسمائها حيث صارت عودتها أو نسيان أصلها غير ممكنين.  استمرّ عزل المخلوقات شبه الإلهية أمداً طويلاً إلى أن بدأت أجيال منها التمرد على آبائها  والتخلي عن ازدواج أسمائها الطوطمية، الحارسة لشخصياتها، والتجمع في طبقة أخذت بالصعود الحثيث ومصاهرة برجوازية المدن والتشبه بعاداتها وصفاتها وأسمائها. وبينما كانت الرغبة الأصلية تستعر وتدفع بأبناء الآلهة إلى الرحيل وراء أرض الأحياء في موجات متتابعة، كان الاندماج السريع يجردها من صفاتها وأسمائها ويشركها في صراع الطبقات المهلك منذ الخطوة الأولى، قبل أن يلتقطها قصاص المدينة ويهجّن نقاءها أو يرميها في غربة أخرى. الموجة تلو الموجة، والأسماء محفوظة في ذاكرة حاسوب جبّار.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

البرلمان يتوعد بـ10 استجوابات: ستمضي دون عراقيل

انتحاريون على أبواب حلب.. ماذا يجري في سوريا؟

الدفاع التركية تقتل 13 "عمالياً" شمالي العراق

مجلس ديالى يفجر مفاجأة: ثلاثة اضعاف سرقة القرن بالمحافظة "لم يُعلن عنه"

الشرطة العراقي يغادر إلى الدوحة لملاقاة بيرسبوليس الإيراني في دوري أبطال آسيا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram