السید عمار أبو رغیفبلى! (بوبر) لكي نتعلم ان مغادرة الحكمة توأم مغادرة الانتاج الداخلي، فمفتاح العلوم فلسفتها ، وسر تقدم المعرفة العلمية يهجع في منهجها. وإذا كانت نهضة الامم تبدأ من الاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي فلا ثمار لاصلاح لم تمتد جذور نهضته في اعماق حكمة مؤسسة على ارضه. عبر (بوبر) من (مشكلات الكليات) العتيدة،
و(إشكالية الاستقراء) التي اثقلت كاهل الحكماء، و(منطق الكشف العلمي) كتابه الذائع الى تفسير التاريخ ورؤية قوانين الاجتماع البشري، وكانت الحكمة جواز مروره الى قاعة المرافعة للدفاع عن مجتمعه المفتوح وليبراليته سياسة واقتصاداً وبنىً مجتمعية.القسم الأولقررت ان اتابع (بوبر) في دروس تحت عنوان (فلسفة كارل بوبر في ضوء معيار النقد) فوجدت من الانصاف ان اتعامل مع الرجل في نصوصه المحررة باللغة التي يعرفها ويصادق عليها بنفسه (الانجليزية). ومن ثم ساحاول ما وسعني ان انقل في المرحلة الاولى نصوصاً من كتابه الرافد (منطق الكشف العلمي)، ومن ثمَّ فها هي نصوص من (بوبر) إلى القاريء العربي، سنتخذها حجة في قراءة الرجل ونقده.سابدأ مع (منطق الكشف العلمي) من المقدمة الانجليزية، حيث لم يتركها (بوبر) دون ان يدون فيها افكاراً اساسية تطل على اهم مرتكزات عصره الفلسفية والمنطقية. ثم ساركز على نقل الفصل الاول بكامله، حيث يمثل المدخل، والعمود الفقري لكل فلسفة الرجل واتجاهاته المنطقية، ويحدد فيه ايضاً شكل الارتباط بين الحكمة وبين محاولاته في دراساته عن (المجتمع المفتوح واعداؤه) وعن بؤس الايديولوجيا وعقم المذهب التاريخي.على أن املاً دافقاً يحدوني رغم كهولة لا ترحم ان اتوفر على كتابه (النفس ودماغها)، الذي خصصه لاشكالية (الادراك البشري)، وبذلك سأقرأه بالتزامن مع اعادة قراءة نظريتي في الادراك البشري، التي حررتها قبل ثلاثة وثلاثين عاماً. وهل هذا الامل مشروع وبلدي تحترق رماله وتعصف حاراته بزهق الاخضر واليابس؟! لا ادري، انما هو الله ندعوه ان يأمن العراق!حاولت في مقدمة طبعة عام 1934 ـ باختصار تام، ان اطرح خوفي ـ ازاء الاتجاه الفلسفي السائد آنذاك، وان اطرح وجهة نظري ازاء فلسفة اللغة ومدرسة التحليل اللغوي، والرعيل الذي تبنى هذا الاتجاه.وسأطرح عبر هذه المقدمة الجديدة موقفي ازاء الاتجاهين الاساسيين في مدرسة التحليل اللغوي، وفق الموقف الراهن لهما، على أن التحليليين اللغويين اليوم ـ كما كانوا بالامس ـ موضع احترامي واهتمامي. ان هؤلاء الخصوم اعدهم رفاقاً وحلفاء; باعتبارهم الخلف الوحيد الذي حفظ بعض تقاليد الحكمة العقلية.يعتقد التحليليون اللغويون انْ ليس هناك مشكلات فلسفية أصيلة. ولو كانت هناك من مشكلات فهي جراء الاستخدام اللغوي والدلالات اللغوية. بينا اعتقد ـ على كل حال ـ ان هناك مشكلة فلسفية واحدة ـ على الأقل ـ تثير اهتمام كل مفكر، انها المشكلة الكونية، مشكلة معرفه العالم، بما في ذلك انفسنا ومعرفتنا، بوصفها جزءً من العالم. انا اعتقد ان العلم كله معرفة كونية. وبالنسبة لي تصبح اهمية الفلسفة كما هو حال العلم اكذوبة لا غير، دون المساهمة بهذا السعي الذي خلقا لكي يصنعاه. بالنسبة لي ـ وباي ثمن ـ ستفقد الفلسفة والعلم معاً كل جاذبيتهما اذا تخليا عن ذلك السعي. على أنني اعترف بان التعرف على وظائف لغتنا يمثل جزءً هاماً من هذا السعي، ولكن يتعذر تفسير مشكلاتنا على قاعدة التحليل اللغوي (فك الالغاز) فقط.يحسب رجال مدرسة التحليل اللغوي انهم يستخدمون منهجاً، وهو المنهج المتعين والوحيد للفلسفة، إلاّ أنني اعتقد انهم مخطئون، وان حسبانهم مجانب للصواب. ان يد الفلاسفة حرة طليقة كغيرهم في طريق البحث عن الحقيقة، وليس هناك منهج واحد وفريد للفلسفة.هناك أمر آخر ابتغي طرحه هنا وهو: ان المشكلة المركزية في نظرية المعرفة ـ التي كانت دائماً ولا تزال ـ هي مشكلة نمو المعرفة. وان نمو المعرفة يمكن ان يدرس بشكل افضل عبر درس نمو المعرفة العلمية. ولا اعتقد ان درس نمو المعرفة عبر درس التحليل اللغوي او النظم اللغوية يمكن ان يكون بديلاً لدرسها عبر نمو المعرفة العلمية.على أنني مستعد تماماً للاعتراف بان هناك منهجاً يمكن ان نسمه بانه (المنهج الوحيد للفلسفة)، لكنه ليس وقفاً على الفلسفة وحدها، بل هو أيضاً المنهج الوحيد لكل (درس عقلي). هو منهج العلوم الطبيعية كما هو منهج الفلسفة كذلك. والمنهج الذي اتوفر عليه هو: وضع المشكلة بوضوح وفحص حلولها المتنوعة (نقدياً).لقد ابرزت (البحث العقلي) و(النقد)، بغية التأكيد على وحدة الاتجاهين العقلي والنقدي. وجوهر الملاحظة هنا يتمثل في ضرورة السعي الجاد لاسقاط وحذف كل حل نبنيه لعلاج المشكلة، لا ان ندافع عنه. والمؤسف اننا أنفسنا لا نلتزم بهذه الضرورة، لكن حسن الطالع لا يفقدنا اناساً آخرين لا يغفلون عن غفلتنا، ومن ثمّ يطالعوننا بنقدهم وتقويمهم.على ان أثمار عملية النقد يتوقف على طرح المشكلة في اطار واضح، ومعالجتها بجلاء وتحديد، ليكون هذا العلاج الواضح المحدد نفسه مادة للنقد والتقويم مرة اخرى.انا لا أنكر ان هناك ما يدعى بـ (التحليل المنطقي)، وهو يلعب دوراً في ايضاح وفحص مشكلاتنا وفي اقتراح حلولها. كما لا ادعي ان مناهج (التحليل المنطقي) و(التحليل اللغوي) عبث لا ضرورة لها. لكن هذه المناهج ـ حسب
(كارل بوبر) نصوص ودروس
نشر في: 2 يونيو, 2010: 04:49 م