كيف استطاع صبيّ ولد في 1883 من عائلة مسيحية مارونية متواضعة في قرية جبلية في شمال لبنان أن يصبح كاتبًا ومفكرًا وشاعرًا ورسّامًا لبنانيًّا موهوبًا ترجمت كتاباته في أنحاء العالم كافة ونالت رسومه إعجاب النقاد في أهم العواصم؟
بصفتي عالمة بالجغرافيا، أنا أهتم بكيفية تفاعل الإنسان مع الحي والقرية والمدينة والمحيط والطبيعة التي يعيش فيها ... وبرصد العناصر والسمات التي ستسمح له بتقديم تصورات حول محيطه تتخطى إدراكه لمحيطه الواقعي عبر الاستعانة بذكريات ومساحات خيالية مفعمة بالوجدان. إنّ تشعب هذه التصورات الفكرية وقراءتها يدخلاننا في عالم "المعنى" بكل قيمه ورموزه. من خلال تحليل المحطات الرئيسة في حياة جبران، تسعى مقاربتنا المبنية على الجغرلفيا الإدراكية إلى تحسين فهمنا للتصورات الوجدانية والروحانية والفكرية التي تشكل حبكة أعمال جبران خليل جبران. الطبيعة، القريةفي الشرق الأوسط الصحراوي بنسبة 85%، لطالما برز لبنان كحالة استثنائية، وهو "بلد الحليب والعسل" بجباله الشامخة وقممها المكسوة بالثلوج والينابيع المتدفقة على سفوحها وثروته النباتية الوافرة التي يشكل الأرز رمزًا لها ... ألهب لبنان على مر العصور مخيلة الشعراء والأدباء وكان محط الأطماع وقبلة الغزاة وجنة المستشرقين. لا تزال كتب التاريخ والجغرافيا في سائر الدول العربية تصفه بالبلد المبارك من الطبيعة. ويمجَّد لبنان بتاريخه المجيد وغابات أرزه الجليلة وقراه المتميزة بالقرميد الأحمر المتناثرة على سفوح الجبال وبساتينه المشهورة أشجار الفاكهة والزيتون وزراعة البقول ... إطار طبيعي جليلوُلد جبران في بشري، وهو بلدة جبلية تقع على ارتفاع 1500 م، على كتف منحدرَين خصبَين ووعرَين في آنٍ معًا. تفصل البلدة التي يصفها الأديب الفرنسي ألفونس دو لامارتين في كتابه "رحلة إلى الشرق" (Voyage en Orient) (1832-1833)، بضع كيلومترات فقط عن غابة الأرز، وهي – بحسب لامارتين – "أشهر المعالم الطبيعية في الكون". أقتبس: "قرية بشري التي تكاد بيوتها تتماهى والصخور التي نحتتها السيول ... يصل المرء إليها عبر ممرات منحوتة بالصخر ووعرة لدرجة يكاد المرء لا يصدق كيف أن البشر يتجرأون على سلوكها ..."تشرف بشري على وادي قاديشا المقدس، علمًا بأنّ قاديشا لفظة سريانية تعني "المقدس". لطالما شكل هذا الوادي ملجأً لعدد من النساك والأديرة، وهو اليوم مدرج على لائحة التراث العالمي. ويمكن للمارة على الطريق أن يروا قبب الأجراس والأديرة والمحابس المتعددة المحفورة في الصخر والمشرفة على النهر. يتذكر جبران: "يتخذ الوادي شكل مبخرة استبدل بخورها بالضباب. والقرى المتناثرة على جوانبها على شكل مسبحة، وبشري الحبة الوسطية منها." في هذه المنطقة "المباركة من الآلهة" حيث تزخر الطبيعة المدهشة بالرموز الدينية والروحانية، ترعرع جبران، مكتشفًا الثروات الطبيعية والبشرية في محيطه الذي شكّل مرتعًا مميزًا للتعلم واللعب له ولأخيه وأخواته. لن تنسى أذناه هدير الشلال وخرير السبيل وأنشودة الناي العذبة، كما تقول الأغنية: " أعطني الناي وغنّي، فالغنى سر الخلودوأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود وهناك أمضى جبران طفولة سعيدة. الإطار العائلي والاجتماعيخلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كانت السلطنة العثمانية تسيطر على لبنان والمنطقة منذ قرابة أربعمئة عام. كان والد جبران، خليل سعد جبران، جابيًا للضرائب لصالح الإدارة العثمانية. وقد كان صارمًا وسريع الغضب، وغالبًا ما يهاجم أولاده وزوجته كاملة رحمه، وهي أرملة أنجبت أربعة أولاد، أحدهم من زواجها الأول. كانت كاملة تضطلع بالدور الأهم في الأسرة وقد سعت لتوفير تربية جيدة لأولادها من المدرسة إلى الموسيقى والرسم والتعليم الديني وغيره. عندما كان والداه يتشاجران، غالبًا ما كان جبران يحتمي بالمغائر ليحلم أو يبدي إعجابه بالطبيعة الخلابة وينغمس في أصواتها وروائحها وألوانها ... في هذا المجتمع القروي المحافظ حيث يمضي الزمن على وقع المدرسة وقداديس الآحاد وتقلب الفصول والاحتفالات الدينية، تميّز جبران عن أترابه بفضل موهبته الفنية وخياله الخصب. اهتزّ أمان العائلة التي كانت والدة جبران تسهر عليها بحكمة وعطف عندما دخل والده السجن إثر اتهامه بالاختلاس الضرائبي ووضع السلطات العثمانية يدها على ممتلكاته كافة في العام 1891. كان جبران يبلغ حينها التاسعة من العمر وكانت حياته تدخل في المجهول. . المراهقة والهجرةفي العام 1895، قررت كاملة أن تحذو حذو الآلاف من العائلات اللبنانية وتهاجر إلى الولايات المتحدة مع أولادها، تاركةً وراءها والدهم المتردد. هكذا، "اقتلعت" كاملة التي كانت الركن الأساس في العائلة، ابنها جبران من القرية والجبل والوادي المقدس، وكلها أماكن مفعمة بالوجدان بالنسبة إليه ... فجأةً، وبعد رحلة طويلة، انتقل من قرية هادئة ومنعزلة إلى مدينة مكتظة بالسكان ومليئة بالضجيج، من طبيعة مليئة بالخضار إلى غابة من المباني، ومن مدرسة القري
جبران خليل جبران والطبيعة
نشر في: 4 يونيو, 2010: 04:21 م