لطفية الدليميمن يقرأ مؤلفات الباحث الراحل والمتصوف العلماني هادي العلوي ويتابع منهجه الفكري يكتشف محاولاته للتوفيق بين الفكر المادي والإسلام، فهو باحث متعمق في الفلسفات الغربية مثل تعمقه في الفقه الإسلامي والتشريعات والأحكام النابعة منه في الوقت الذي يدين ذكورية بعض الأحكام
وينقد أوضاع المرأة التي تحكمت فيها اجتهادات المتشددين مثلما ينتقد وبشدة - ذكورية النظم الغربية المستندة إلى الكهنوت المسيحي وبخاصة نصوصه المنسوبة إلى بولص الرسول وهي النصوص الوحيدة التي تتطرق للمرأة في الأناجيل، ولا يستثني من نقده العنيف الذكورية اليهودية والأرسطية اليونانية وصولا إلى المحدثين وفي مقدمتهم (هيغل) وأقواله المتشددة عن النساء، لكنه ولتأثره بالتجربة الصينية لاطلاعه الواسع على الثقافة الصينية وتشبعه بها -فقد عاش العلوي- فترة طويلة في الصين- يضع الموروث الصيني المتعلق بأحكام النساء في مقارنة عادلة مع الإسلام الذي تفوق في منح حقوق النساء على الصين إلا في بعض الحالات ، ويخالف العلوي في كتابه (فصول عن المرأة ) الأكاديميين الغربيين في رؤيته لموضوع التمييز بين المؤنث والمذكر في اللغات السامية، فهو بتاريخه البحثي وارتباطه الروحي والميداني باللغة العربية ومعرفته بكنوزها وأسرارها وتأليفه لمعجم كبير هو المعجم العربي المعاصر، يرى أن تقاسم التذكير والتـأنيث بين مفردات اللغات السامية وأدواتها مناصفة، إنما يعود إلى المكانة التي تمتعت بها المرأة في الحضارات السامية التي انبثقت من حضارات الهلال الخصيب (سومرية وآكادية وآرامية وبابلية وفينيقية) والتي شرّعت أول نشوئها لنظم المشتركات الاقتصادية المبكرة ومنها احتفظت المرأة بمكانة انعكست في التشريعات كما انعكست في بروز ظاهرة التأنيث في اللغة.. يقول العلوي مامعناه: يزعم الأكاديميون الغربيون المعنيون بشؤون المرأة والمجتمعات الشرقية أن التمييز اللغوي جاء بفعل الحواجز الاجتماعية بين الجنسين في المجتمعات المغلقة القامعة للنساء، وهو رأي مردود بالأدلة اللغوية والمعطيات البحثية، يعرف المهتمون باللغات السامية مدى موازنة هذه اللغات بين الوجود الذكوري والأنثوي بل إن لغتنا العربية -وهي أكبر اللغات السامية وأكثرها اكتمالا وأحدثها- تؤنث معظم ظواهر الطبيعة كالشمس والسماء والكواكب والمجرة والأرض والعواصف مثلما تؤنث الأحداث الكبرى في الحياة الإنسانية كالسلم والحرب والهدنة والاتفاقية والمعاهدة ولا تتوقف عند هذا الحد من غلبة التأنيث فتؤنث الحكومة والوزارة والمملكة والامبراطورية والمدينة والسوق والمكتبة والمستشفى والمدرسة والجامعة والأكاديمية وتمضي إلى أبعد من ذلك فتؤنث كل جموع التكسير المتداولة في لغتنا الفصحى والعامية، ويشير العلوي في معجمه الكبير إلى تقاسم أعضاء الجسم تأنيثا وتذكيرا، وينبهنا هذا الاستطراد إلى ضرورة تقصي العدل في الحكم على هذه الظاهرة قبل التسليم بالتفسيرات السطحية لمن يريدون إلحاق الشرق بكل ما هو ذكوري عنيف وقاس دون البحث في جذور اللغة وفهمها عبر التعرف على أصولها الحضارية. وفي الرد على محاولات إلغاء نون النسوة ممن يجدون في الغرب وحده أنموذجا للتحرر يرى باحثنا أن هؤلاء المتماهين مع القويّ المتفوق يخالون التحرر تطابقا مع الذكورة ويحصرون موضوعة تحرر المرأة بإلحاقها بالرجل مصدر القوة والفعل في المجتمعات الغربية ولذا يلحقون الزوجة باسم زوجها بينما تحتفظ المسلمة بلقب عائلتها وهذم ميزة تحرر أصيلة..تشمل مفردة الإنسان في لغتنا المؤنث والمذكر، ولا يجوز تأنيثها فنقول هذا إنسان وهذه إنسان ويحفظ هذا الإجراء قيمة التساوي بين النساء والرجال، بينما تنطبق مفردة (إنسان) في اللغات الأوروبية على الرجل فحسب (بسبب ماتعكسه تلك اللغات من ذكورية فادحة لظهورها في مجتمعات ذكورية مكتملة)، يبدو لنا أن اجتهادات العلوي في الشأن النسوي تنحاز للرؤية المادية المشروطة بالفضيلة والمضادة للتحلل الغربي إنما بعقل متفقه بالإسلام وعارف بتطور النظم الاقتصادية من أول المشتركات الآسيوية حتى عصرنا الحديث في محاولة التوفيق بين نظرة متطورة لأوضاع النساء وحقوقهن مع نقد عنيف للذكورية الغربية والذكورية التي نشأت فيما بعد العهد الإسلامي الراشدي وترسخت في الفترة العباسية حين اشتد عود الدولة وازدهر اقتصادها وتوسعت أرجاؤها وجيء بالجواري من أطراف الإمبراطورية إلى حواضر الخلافة ففقدت النساء كثيرا من مكانتهن المرموقة التي حفظتها لهن التشريعات الإسلامية الأولى قبل أن تتعرض هذه التشريعات إلى تفاسير المتفقهين التي توافق هوى أهل السلطة في العصرين الأموي والعباسي وماتلاهما ..
قناديل ..الراحل هادي العلوي وأوضاع النساء
نشر في: 5 يونيو, 2010: 04:42 م