محمود النمر"الحياة لابد أن تكون هفوة، من دون موسيقى" نيتشه منذ بداية وعي الإنسان البسيط كانت الكهوف ملجأ لتجمعات يحاول فيها الإنسان ان يصدر بعض الأصوات المتناغمة سواء كانت تلك الأصوات تصدر من الأفواه، التي تعلمت بدايات لحنية بسيطة جدا لمناغاة الوحدة وطرد هاجس الخوف، وتبديده بالصفير او من خلال ضرب العظام على بعضها لاستخراج بعض الأصوات المتجانسة
التي يحاول فيها ان يسرح بخيال اللحن الى الطمأنينة، وكانت هي النافذة الأولى بالسمع لتطريب الانسان في الكهوف، لذلك كانت التجمعات الأولى تقيم حلقات تحاول ان تستخرج لحنا بسيطا من خلال الأصوات او النفخ بالعظام او الطرق بالحصى على الحصى، فتلتحم أصوات على أصوات، فتحدث نشوة التطريب الموسيقي .الموسيقى هي تبديد هاجس الخوف من خلال ( الخيال السمعي) الذي يسميه –ت- س- اليوت، بدليل ان الطفل الذي يبكي حين تحاول امه ان تهدئ من روعه تبدأ بمناغاته بلحن بسيط على شكل كلمات مموسقة تطرد بها هاجس الخوف منه .نقدر ان نطلق على صفة هذا الكتاب (سيرة ذاتية لموسيقى مبدع) او كما يسميها المؤلف الشاعر فوزي كريم – حياة موسيقية – لانه يحاول ان يستنطق ذكريات السمع الموسيقي عبر عقود من الزمن، وهي صفة لازمة أحكمت معطياتها في عمر الشاعر، واؤكد لانه شاعر، فليس مابين الشاعر وبين الموسيقى من حُجب، لذلك حين تقرأ بيتا من الشعر فيه شيء من الخلل في الوزن العروضي، ترفضه اذن الشاعر ، وهذا يعني ان بداية الشعر هي الموسيقى كما بداية الموسيقى هي الشعر، فالموسيقى هي الشعر والشعر هو الموسيقى، وكلاهما خطان متوازيان لايفترقان .ان هذا الكتاب هو مجموعة نوتات تشكلت في خيال شاعر ونمت جملاً لحنية كونت شاعراً، وتكونت مجموعة من الكونشرتات التي تشكل منها الشاعر فوزي كريم ، والسؤال الذي يبدو معلقا في الفضاء، هل ان هذه الموسيقى هي التي كانت النواة الأولى - لفوزي كريم – كما يسميها الطب dna ام هي من ضمن التشكلات الاولى التي نمت في اللاوعي، وأصبحت جملة من التراكمات حتى اكتملت شاعرية - فوزي كريم -؟ .لاشك ان الذي يمتلك هذا الثراء الموسيقي والوعي الثقافي والخيال النوعي، والجدل الذي لايستقر إلا على قلق، والملكة الشعرية بمفرداتها المرتبكة والنزقة، وحصيلة نماء وخصب فني وتشكيلي وسينمائي، هي التي خلقت الشاعر ومنحته هذا الثراء .الكتاب من أصدرات دار المدى للثقافة والنشر وهو من 246صفحة بالحجم المتوسط، فيه اشارات للطفولة مرورا بجميع المحطات، الى ان أستقر به الترحال في لندن مدينة الضباب، الشاعر ما بين الموسيقى والضباب... من هنا يبدأ السرد الموسيقي المتداخل في الوجود الشعري فهو يتنقل من محطة الى اخرى، يستنشق عبق الموسيقى بالكلمات، والملفت للنظر ان الشاعر المموسق اخذ يسرد التداعيات الموسيقية، ويرتقي السلم الموسيقي المكتنز بقوة الفهم والشرح والوعي الجمالي."مازلت أتذكر في اذاعة بغداد مقتطعا موسيقيا يسبق برنامج "تمثيلية الاسبوع" التي كانت تفتنني لأنها تقدم بالفصحى، اسمعه بالنشوة ذاتها وهي تدفع الكائن، في اول مراحل المراهقة، من الواقع الارضي الى فوق،الى ماهو اسطوري "صفحة 15.يضع فوزي كريم خطوط بيانية متسعة للروي الموسيقي، كل خطوة يؤشر لك فيها عن ثباتها ووهنها ويسترسل بفضح الذكرى بالدلالات المموسقة حتى لاتذهب الى عالم الأدب، فهو يظل ممسكا بالخط البياني ليس من باب الضعف وانما من باب التأكيدات على الذات التي نضجت تحت سماء الموسيقى.فن الاصغاء عالم ثقافي ومعرفي يقترب من عوالم رياضة –اليوغا – وهذا ما تعود عليه كل الذين يحاولون ان يمسكوا صفة التسامي الروحي، وهذا الفن يمنح المصغي فيضا من اكتساب النقاء، او هو اغتسال في فيضاً تصوفي غير عرفاني، بل نقدر ان نطلق عليه تسمية " تصوف موسيقي " يطلق الروح في فضاءات لحنية منفلته تغذي زوايا متفردة داخل تلافيف العقل البشري، ولكن ليست كل العقول.العقول التي تمخرها الموسيقى هي عقول استثنائية ترتقي فوق خط مستوى الفهم.فوزي كريم يؤسس الى عالم استثنائي في عملية دمج عصرية، يصوغ ثيمتين اساسيتين في الحياة هما الموسيقى والشعر، ويذكر كل الذين اسسوا الى هذين الفنين العظيمين حتى لا يتصدع وجه الحياة الاستثنائي، اليست الحياة بوجودها في هذا الكون استثنائيا!.
صحبة الآلهة.. إيحاءات الخيال السمعي
نشر في: 6 يونيو, 2010: 05:25 م