ترجمة: د. هناء خليف غني بقلم روبرت دوغلاس فيرهيرست عُرف عن دكنز براعته في طرح الأسئلة وكذلك براعته في تجنب الاجابة عنها. في مستهل روايته (دومبي وسن)، يسأل بول دومبي، الصغير الحجم والحاد الذكاء، والده "بابا، ما النقود؟"، "انها الذهب والفضة والنحاس والجنيهات والشلنات وانصاف البنسات،" أجاب والده.
الا ان النقود تمثل شيئاً آخر بالنسبة لوالد بول، رجل الاعمال الثري، انها "الاوراق النقدية ومعدلات التبادل وقيمة المعادن النفيسة والمضاربات في اسواق المال والقوة الشرائية والعوامل التي تتحكم بعمليات العرض والطلب." بداهةً، الشخصية الروائية تتحدث بلسان مؤلفها، ودومبي في هذه الرواية يترجم جانباً من افكار دكنز وآرائه بشأن النقود. النقود من وجهة نظر دكنز، تمثل شيئاً يتجاوز مجرد القدرة على البيع والشراء. انها تجمع الناس احياناً واحياناً اخرى تفرقهم. كما انها تحول بعض الاشخاص الى مضرب المثل في الكرم والاحسان والبعض الآخر الى وحوش نهمة ليس للجشع حدوداً في قاموس حياتها. النقود تديم الحياة في هذا العالم ولكنها تشكل في ذات الوقت مصدر خطر يهدد بالاطاحة بالقيم الانسانية الجميلة اذا ما أُفلتت من عقالها. تتناول روايات دكنز على نحو عام مظاهر الحياة في العصر الفكتوري، او انكلترا القرن التاسع عشر، وتُعنى تحديداً بالتعليق على المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي عصفت بالمجتمع الانكليزي وحولته من مجتمع زراعي تقليدي الى رائد للثورة الصناعية في القارة الاوروبية. في ذلك الوقت، وكما في أي وقت، كان الصراع على أشده بين القيم الروحية والابداعية وبين المادية القاتلة لكل قيمة معنوية. تصور روايات دكنز عالماً لكل شيء فيه ثمن، عالماً تُقتل فيه مشاعر الرحمة والتعاطف الانسانية ويتسابق افراده للحصول على الثروات والمنافع الاقتصادية التي على اساسها تتحدد مكانتهم الاجتماعية وقدراتهم الاقتصادية. الا ان التكالب على جمع المال له تكلفة انسانية باهضة، فهذا بتزر، في رواية الازمان العصيبة، وقد تجرد من كل ما يجعله انساناً بالمعنى الدكنزي للكلمة وبالغ في تطبيق مبادئ مدرسة الحقائق الداعية لمعاملة افراد الجنس البشري كمجرد الآت في ماكنة انتاجية ضخمة تؤمن ضخ المزيد والمزيد من البضائع في الاسواق. أنها مدرسة الارقام والاحصائيات وواحد زائد واحد يساوي اثنين. ليس لبتزر قلب بالمعنى العام المتعارف عليه المقترن بالرقة والحنان والمشاعر الانسانية الجياشة، وانما قلبه عبارة عن عضو بايولوجي وظيفته ضخ الدم الى اجزاء الجسم المختلفة للبقاء على قيد الحياة. تمظهرات الازمة المالية العالمية كما نعرفها اليوم حاضرة بقوة في روايات دكنز، فالازمان العصيبة مثلاً تؤشر حالة من الركود الاقتصادي العام والمشاكل المصاحبة لذلك من تدني الاجور وارتفاع معدلات البطالة وتفاقم الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وليس ادل على ذلك من تكرار عبارتي "انها الفوضى، انها الفوضى" و "الكل تعساء في كوكتاون" وهي المدينة التي تقع فيها احداث الرواية على لسان ستيفن بلاكبول ممثل الطبقة العاملة في الرواية. وهنا تكمن اهمية هذه الروايات من جهة تمثيلها وسيلة مناسبة لفهم مسببات هذه الازمة وتأثيراتها. في السياق ذاته، يأتي أهتمام هيئة الاذاعة البريطانية بعرض عدد من الافلام السينمائية المُعدة عن روايات دكنز من مثل دوريت الصغيرة والامال العظيمة والازمان العصيبة. تُعد دوريت الصغيرة التجسيد الاسمى لأزمة الائتمان التي عصفت بالمصارف البريطانية. بيد انها ليست الرواية الوحيدة التي يتحدث فيها دكنز عن الأزمات التي عصفت بالقطاعين المالي والمصرفي، اذ يعرض دكنز في رواياته باحداثها المؤلمة وشخصياتها التعيسة لمحات من عالم كنا نظن انه قد ولى الى غير رجعة، عالم سادت فيه مظاهر الفقر والقلق والبؤس وفوانيس الغاز الباهتة. كلما اقتربنا من هذا العالم وتفحصنا جوانبه المختلفة، تبدت لنا امور مدهشة تذكرنا بما يعاني منه العالم حالياً من كوارث اقتصادية ناتجة عن التكالب على القروض الائتمانية والفضائح المالية والشعور بالهلع من احتمالات الافلاس والانهيار الاقتصادي للقطاعات الصناعية. بالطبع، دكنز ليس الوحيد الذي كتب عن التأثيرات المروعة للأزمات المالية وآليات عمل السوق، فرواية تمتع بوقتك لشاؤول بيلو تتحدث عن مخاطر المضاربات المالية في البورصة ويصف جون ديليلو في روايته (كوزميبيلس) الأزمة المالية من وجهة نظر أحد تجار العملة الذي فقد ثروته جراء انهيار سوق الاوراق المالية. حقيقةً، ثمة ما يكفي من الاسباب التي تدفعنا للاستعانة بروايات دكنز لفهم طبيعة الأزمة المالية وان من منظور ادبي، فهذه الروايات عالمية في توجهاتها وموضوعاتها وعلى الرغم من تأليفها في القرن التاسع عشر، فلا يمكن القول انها معنية بالعصر الفكتوري فحسب بما انها لا تسرد اخبار الأزمات المالية فقط وانما تعلمنا طرقاً للانتصار عليها والتحسب لها في المستقبل. تبدأ رواية دوريت الصغيرة بأحد اشهر المشاهد الحزينة في روايات دكنز وفيه يتحدث وليم دوريت، النزيل الذي قضى معظم حياته في سجن مارشلسي بسبب عجزه عن سداد الديون واضطراره قبول مسا
تشارلز دكنز والأزمة المالية العالمية.. الرواية انعكاساً للأزمات
نشر في: 7 يونيو, 2010: 05:05 م