محمد خضيرأين نلتقي بمفاهيم مثل "الزمن" و "الضوء" و "الصوت" و "اللغة" في حالتها الصافية من الحس الأرضي الإنساني "المتعب" بشواغله ومقاييسه، أفي القصّ أم في المختبر أم في السفر البعيد وراء الأرض؟ هنا في هذا التطبيق سنتبع أثر راي برادبري على المريخ، ونجرب معه عمل ذاكرة شخصية "توماس" المتطبعة بمفاهيم الأرض التي تركها في ماضيه البعيد،
تمد لوامسها لتستشعر رائحةَ الزمن وشكله وصوته، وتسترجع ذكرياته عن المطر والظلمة والثلج والصمت، على طريق شقّها المريخيون بين تلال الزمن التي تجاوز عمرها آلاف السنين، قاد توماس عليها مركبته:"كان درباً طويلاً غائصاً في الظلمة والتلال، فتمسّـك بالعجلة مادّاً بين الحين والآخر يده إلى زوادة غدائه ليلتقط قطعة من الحلوى. مرّت عليه ساعة وهو يقود بثبات، ولا من سيارة على الدرب، ولا ضوء، لا شيء إلا الطريق ينحدر نحو الأسفل. كان المريخ هادئاً دائماً، لكنه الليلة أكثر هدوءاً، تنتصب الجبال قبالة النجوم وثمة رائحة للزمن في الهواء. شمّ الرائحة فتحرّك الخيال في ذهنه وخطرت له فكرة: كيف تكون رائحة الزمن؟ مثل الغبار والساعات والناس ، وهل لنا أن نتساءل كيف يكون صوت الزمن؟ إن له صوتاً مثل صوت جريان الماء في كهف مظلم، ونواح باكين، وقذارة تتساقط على أغطية صندوق أجوف، ومطر. وليتمادى أكثر، فكيف يكون شكل الزمن؟ إنه مثل ثلج يتساقط بصمت، أو إنه أشبه بفلم صامت يُعرض في متحف قديم، إذ يتساقط مئة مليون وجه مثل بالونات العام الجديد. نزولاً ثم نزولاً نحو لا شيء. كذا كانت رائحة الزمن وشكله وصوته، الليلة، وأطلق توماس إحدى يديه في الريح خارج المركبة، الليلة يمكنك أن تلمس الزمن تقريباً". (قصة آب 2002: لقاء ليلي ـ راي برادبري ـ ترجمة غيداء فيصل).يختلف مفهوم توماس الأرضي للزمن عن مفهوم رجل مريخيّ يلتقيه على الطريق بين التلال، يبدو في حلته المعدنية كحشرة فرس النبي بلونها الأخضر العشبي، توقف الزمن في ذاكرته عند نقطة ماضية، ويجهل كل شيء عن زمن الأرض المستقبلي. يتحدث توماس عن مدينة ميتة، أطلال بيضاء وقنوات ناضبة يراها في مدى البصر، ويناقضه المريخي فيشير إلى وجود مدينة حية وبحيرات طافحة باحتفالات المريخيين. نظرتان لا تلتقيان، وزمنان متعاكسان، وجسدان يتصافحان ولا يتلامسان بالأيدي، وحواران مقتضبان، ولحظتان نادرتان، ولا شيء حقيقي. توحي الأبعاد الأرضية لتوماس بأنه شخص حيّ والأخر المريخي بأنه ميت. موشور شبحي "يشتت الضوء المتراكم للعوالم النائية". لا يريد المريخي أن يفكر بالمستقبل، ولا يعني له شيئاً العيش في العام الأرضي 2002 أو في العام المريخي 4462853G.E.C . توقف الزمن إلى الأبد "لسنا حيين ولسنا ميتين. كلانا أكثر حياة من أي شيء آخر. الأمر أشبه بتوقف مؤقت بين الحالين. غريبان التقيا ليلاً. هذا هو الأمر غريبان مرّا على الطريق". تنتهي لحظة اللقاء الليلي ويعود توماس إلى سيارته فيواصل الرحلة في الطريق الخالية حيث لا صوت الآن، ولا راكب غيره، ولا شيء يعترضه. يتخلص الزمن من فرضيته الأرضية، يلتمع مثل ضوء نجم، في كوكب خال بعيد.على الجانب الثاني، يبرهن بورخس في قصة (يوتوبيا رجل متعب، ترجمة سعيد الغانمي) على فرضية مستقبلية مختلفة عن فرضية برادبري، حيث الأبدية تعني المستقبل (الوجود/ هنا/ الآن) والسفر لا في الأزمان فقط وإنما في المسافات كذلك. إن كل سفر هو سفر في اللحظة الراهنة. أما السفر إلى الفضاء الخارجي فقد أُلغي مع فرضية السفر إلى كل مكان: " كل سفر هو سفر في الفضاء. الذهاب من كوكب إلى آخر كالذهاب إلى المزرعة عبر الطريق. حين دخلت إلى هذه الغرفة فقد قمت بجولة في الفضاء". وكما أُلغي السفر إلى المستقبل فقد تمّ نسيان الماضي، فلا متاحف ولا مراثٍ ولا احتفاءات سنوية، ولكل شخص برناردشو خاص به ويسوعه وأرخميدسه. وقد أهملت الحكومات وألغيت المطابع التي كانت تضاعف ما هو غير ضروري من الكتب والدوريات، في حين أن رجل المستقبل لا يحتاج إلا لدزينة واحدة من الكتب. يعيش رجل اليوتوبيا البورخسية وضعاً تجريدياً خالصاً من الآثار والتبعات ويجرد غرفته من اللوحات والتماثيل والكتب، يتنكر لماضيه ويتجاهل وقائع حاضره ومستقبله، يسقط في خطيئة الشك والنسيان: "الوقائع لا تهمّ أحداً. إنها مجرد انطلاق للاختراع والاستدلال. نحن نتعلم في المدارس الشك وفن النسيان، لاسيما نسيان ما هو شخصي ومحليّ. إننا نعيش في الزمان، الذي هو تتابعيّ، لكننا نحاول أن نعيش من وجهة نظر الأبدية. لم نستبقِ من الماضي سوى أسماء قليلة، تميل اللغات إلى تجاوزها. ونحن نعرض عن التفاصيل العقيمة، فليس لدينا تقويم أو تاريخ، وليس لنا إحصاء". تنحصر شكوكية بورخس في شخصية زائر من قرن آخر، من زمن "يوتوبيا" توماس مور مطبوعة في بازل عام 1815، وقد حُذفتْ منها صفحات، وهما يتحاوران باللاتينية عندما يعجزان عن التفاهم بلغة الحاضر: "الاختلاف بين اللغات كان مبعث اختلاف بين الشعوب، بل كان مبعث حروب أيضاً. ولهذا عاد العالم إلى اللاتينية" يقول الزائر المستقبلي. الجبل والبحر والساعة واللغات رموز زمانية وشفرات مكانية تحيلنا على ماض مجرد ومستقبل أبدي ويوتوبيات مكررة نوضع ف
خارج العاصمة: مفاهيم صافية
نشر في: 7 يونيو, 2010: 05:06 م