ترجمة: نجاح الجبيليتتكون رواية "آنا كارنينا" من خطين سرديين: خط آنا (دراما الخيانة والانتحار) وخط ليفين (حياة زوجين سعيدين). وفي نهاية الجزء السابع، تقتل آنا نفسها. وهنا يأتي الجزء الأخير الثامن المكرس بشكل حصري الى خط ليفين. وهذا خرق حاد للعرف الروائي، لأن موت البطلة بالنسبة للقارئ هو النهاية الوحيدة الممكنة للرواية.
حسن، في ذلك الجزء الثامن لم تعد البطلة موجودة على مسرح الأحداث؛ كل ما تبقي من قصتها هو الصدي الزاحف، الوطء الخفيف للذاكرة الباهتة، وهي محببة وصادقة. فرونسكي وحده يائس، ويذهب الى سيبيريا ليطلب الموت في الحرب ضد الأتراك، وفخامة فعله يصبح نسبياً: الجزء الثامن تقع أحداثه كلياً في مزرعة ليفين، إذ أنه في سياق الحديث يسخر من هستيريا مناصري السلاف وهم يسيرون للتطوع للمحاربة من أجل الصرب. إضافة الى أن تلك الحرب تتعلق بليفين أقل كثيراً مما تتعلق بتأملاته عن الإنسان والإله؛ وهي تخرج الى السطح متشظية أثناء فعالياته في الحقل، ممتزجة بنثر الحياة اليومية التي تنتهي كنسيان نهائي لدراما الحب.في وضعه لقصة "آنا" في الفضاء الواسع للعالم حيث تذوب أخيراً داخل اتساع الزمن المحكوم بالنسيان، خضع تولستوي للنزوع الأساسي لفن الرواية لأن السرد كما هو موجود منذ فجر التاريخ أصبح الرواية حين لم يعد المؤلف قانعاً بـ "القصة" فقط بل فتح النوافذ للعالم الذي يمتد في كل ما حولنا. وهكذا ارتبطت بـ " القصة " قصص أخري ومشاهد واوصاف ومشاهدات وتأملات، وكان المؤلف يواجه المادة المعقدة جداً والمتغايرة جداً نفسها، الملزم، كمعماري، في فرض شكل معين. بتلك الطريقة نفسها، بالنسبة لفن الرواية منذ مولدها، اتخذ التكوين أو المعمار أهمية أساسية.هذه الأهمية الاستثنائية للتكوين هي واحدة من العلامات الأصلية لفن الرواية وهي تميّز ذلك الفن من الفنون الأدبية الأخري ومن الأعمال المسرحية (حريتها المعمارية محددة تماماً بفترة التمثيل وبالحاجة الى لفت انتباه المشاهد بصورة مستمرة) إضافة الى الشعر. من هذا الاعتبار، أليس من المدهش أن بودلير، بودلير الذي لا يضاهي، كان قادراً على الاستفادة من البحر الأسكندري (بيت سداسي التفاعيل) نفسه والسونيتة نفسها كما استفاد منها حشد الشعراء الذي لا يحصي قبله وبعده؟ لكن هكذا هو فن الشاعر: أصالته تعلن عن نفسها بقوة الخيال، لا بمعماره الكلي؛ وعلى الضد، فإن جمال الرواية لا ينفصل عن معمارها؛ أقول"الجمال" لأن التكوين ليس مجرد مهارة تقنية، فهو يحمل بين طياته الأسلوب الأصيل للمؤلف (كل روايات دوستويفسكي قائمة على المبدأ ذاته من التكوين)، وهو العلامة الفارقة لكل رواية (وضمن هذا المبدأ الشائع، فإن كل رواية من روايات دوستويفسكي لها معمارها الفريد الفذ) وقد تكون أهمية التكوين أيضاً لافتة للنظر في الروايات العظيمة للقرن العشرين: يوليسيس في تنظيمها المتعدد الأساليب؛ رواية " فيردايدرك"، التي تقسّم قصتها "التشردية " (البيكارسكية) الى ثلاثة أجزاء عن طريق فاصلين من الفواصل اللذين ليس لهما علاقة بحدث الرواية والجزء الثالث من رواية " السائرون نياماً" لهيرمان بلوخ يتضمن خمسة "أنواع" مختلفة متكاملة (رواية، قصة قصيرة، ريبورتاج، شعر، مقالة)؛ رواية "النخيل البري" لوليم فوكنر تتكون من قصتين مستقلتين تماماً لا تتقاطعان أبداً.. وهلم جرا.حين ينتهي في يوم ما، تاريخ الرواية، فأي مصير سينتظر الروايات العظيمة الباقية بعد ذلك؟ البعض منها غير قابلة للروي، لهذا فهي غير قابلة للإعداد (مثل رواية "بانتغرول" و "ترسترام شاندي" "جاك المميت"، "يوليسيس")، فهي إما أن تبقي أو تختفي. الأخرى، بفضل " القصة" التي تحتويها، تبدو قابلة للروي (مثل "آنا كارنينا"، الأبله، القضية) لهذا فهي قابلة للإعداد للسينما والتلفزيون والمسرح وأفلام الكارتون لكن ذلك " الخلود" وهم . إن تحويل رواية ما الى قطعة مسرحية أو فيلم يتطلب أولاً تفكيك التكوين وتقليصه الى "قصته"؛ والتخلي عن شكله. لكن ماذا يتبقي من عمل فني حين يجرّد من شكله؟ إن المرء يقصد تمديد عمر الرواية العظيمة عن طريق الإعداد وبناء ضريح فقط، بلوحة رخامية صغيرة تذكّر باسم شخص غير موجود هناك.rnفصل من كتاب "الستارة" لميلان كونديرا ــ المترجم للإنكليزية
ميلان كونديرا يكتب عن تولستوي
نشر في: 11 يونيو, 2010: 04:31 م