ياسين طه حافظللعصر منطقه. وإذا لم نتحدث بمنطق العصر نظل ألعوبة للحماسات والجهالة. كفى ترضيات، كفا مسايرات لأفكار ابتعدت كثيرا في التاريخ. نعم كان الكاتب أديبا ولغوياً وعالما وفقيها وشاعرا ومؤرخا. وكان معروفا بين الناس وكتاباته قريبة في بعضها منهم. ولكن هذا العالم، المؤرخ، الراوية و الشاعر، أي شعر يكتب؟ يكتب نظما لا قيمة له او طرائف او مواعظ وحكما بالية منظومة شعرا .
هذا طبعا "نمط" من "الشعر" يفهمه ناس الشارع أو يرضيهم. وكلما ازداد هذا الشعر بساطة، بمعنى سذاجة، كان فهمه وتداوله أوسع. إن ذلك الشاعر يلبي عندهم حاجة للتشفي من الزمان أو الظروف.. وإذا انحدرت منظوماته إلى النكات الجنسية او الهجائيات او الطرائف، قهقه لها صاحب الدكان ورواها متندراً لأصحابه السذج والبله مثله.الشعر الحقيقي والشعراء الحقيقيون لهم ناسهم، ليس الآن ولكن منذ الجاهلية. واستمر الحال حتى اليوم. تتزايد عزلة المجيدين حتى ظلوا داخل "دائرة" العارفين بفنهم وثقافتهم. فلم تكن "العامة"، أي "الجماهير" بلغة يومنا، تفهم من ابي نؤاس غير النوادر والسفاهات. ابو نؤاس الشاعر العظيم والمفكر والظاهرة الإبداعية في الشعر يعرفه المتخصصون ومن في "الدائرة".وحين غادرنا شعر القرن التاسع عشر، شعر المناسبات والمواليد والختان والزيجات وتاريخ الوفيات والمجاملات الفارغة. مما ينضح عن مجتمع العاطلين..، وجئنا إلى شعر الرصافي الكبير والزهاوي والجواهري الكبيرين، كان العوام مع الجانب السياسي والاجتماعي من أشعارهم، أي مع ما يعبر عن مطامحهم او همومهم. أما جوهر الشعر وفنية القصيدة والابتكار فذلك لا يعنيهم، وهو حصة المعنيين بالفن الشعري.حين جاء الشعر الحر، حدثت انعطافة، حدث شق كبير فاصل بين المهتمين بالشعر والمثقفين والفنانين من ناحية وبين "العامة" من ناحية أُخرى. فالناس، او الجماهير، كانت علاقتهم مرتبطة بالشكل العمودي للقصيدة، وكانت لهم الفة بمظهرية ذلك الشعر وبإيقاعات اعتادوا على سماعها، سواء ألقيت القاءاً او قرأت مطبوعة. ولذلك لم يبق من الجمهور العام مع الشعر الحر الا من يجد فيه وتراً سياسياً نقدياً. وظل هذا الوتر يعمل بقوة حتى عند عموم المثقفين ولذلك فأكثر سمعة بعض الشعراء قامت على أساس سياسي أكثر مما على أساس فني جديد. الشعر الحديث تطلب فهمه ثقافة فنية – أي تخصصاً او اقتراباً من التخصص. وبذلك ابتدأت المرحلة الأولى من دخول دائرة العزلة. فالجمهور الذي اعتاد على الكلام المباشر والخطابية وجعجعة القريض والكلام ضد الحكومات والاثارات الدينية، هذا الجمهور بقي في اماكنه ولم يتقرب الا قليلا من الشعر الجديد ورموزه ومدارسه. الشعر الجديد احتفظ بخيوط محدودة للاتصال بالجماهير، منها الخط السياسي الرافض والمضمون الجنسي (في مجتمع مكبوت). ان قصيدة جديدة تتناول شأناً اجتماعيا – سياسياً تجد من يتابعها او من يرتاح لها، وان لم يستوعبها أدبيا وفنياً. علما ان القصائد الحديثة ذات المضمون والإشارات السياسية هي أكثر نفاذا وأكثر إقلاقا وزعزعة للتردي السياسي أو الاجتماعي من القصائد العمودية والتي لا عمق حقيقياً فيها. كما ان القصائد العاطفية التي تهتم بالمرأة والجنس ظل لها جمهور كبير في مجتمع مكبوت من المراهقين حتى الكهول.. فإذا تناولت قصيدة موضوع الحب ببعد فكري وفني جديد متقدم، تكون قد خسرت، مما بقي من ذلك الجمهور، أعداداً أُخرى.وفي الفن، الرسم بخاصة، حدث ما يماثل هذا ولكن بمفردات مختلفة. أساس المشكلة إذاً، سواء في الفن او في الأدب، هو ان اغلب اهتمام العمل الإبداعي الجديد صار تلبية للمقتضيات الفنية ولامبالاة بالجانب الاجتماعي أي الوظيفة الاجتماعية للفن، مما جعل المسافة بين الإبداع والناس خالية. هذه المسافة الخالية تحولت إلى ما يسمى في المرور "طريقاً خاصاً". أي طريق ناس معنيين لهم علاقة بتلك "الدائرة" او ذلك المكان! معنى هذا ان الشاعر الحديث يكتب شعرا للشعراء ونقاد الشعر وان ادعى أحيانا خدمة الجماهير فهذه "الخدمة" آجلة وإذا ما أتت ففي غير زمانها، وربما لا تلبي حاجة آنذاك..معنى هذا ان ما بقي للجماهير، او للعامة، يسير جداً وقد لايبين. الناس يتحسسون احتياجاتهم تحسسا في النصوص الجديدة ويحاولون قدر الإمكان استنهاض ما يعنيهم فيها ومنحه حضوراً اكبر.نتيجة مؤسفة طبعاً. ولكن هذا واقع حال ولا مناص من الوصول إلى مثل هذا فالشاعر متقدم بثقافته الأدبية وبفنه الشعري على عموم مجتمعه وعلى المثقفين في الحقول الأُخرى. إذن لا الطبيب يفهمه فهما يوازي تقدمه الفني ولا المحامي ولا التاجر ولا العسكري ولا حتى أديب انماط الكتابة الأُخرى، فكيف بالكادحين والراكضين وراء رغيف اليوم ورغيف الغد؟ لا مشكلة بالنسبة للتخصصات العلمية والمهنية الأُخرى بسبب نوع العلاقة وفلسفة الخطاب. ناقد الشعر او ناقد الفن هو الشاهد الوحيد أمام الشاعر او الفنان، الذي قد يوازيه او قد يتفوق عليه في مجاله. أقول "قد" لان ذلك ليس صحيحا دائماً. مع هذا يحس الشاعر ان فهم الناقد للنصوص غالبا ما يكون فهم بحث ووصول إلى تطبيق منهج، أكثر مما هو استيعاب فني. فالناقد هو
ارستقراطية الأدب.. ارستقراطية الفن
نشر في: 13 يونيو, 2010: 05:43 م