TOP

جريدة المدى > ملحق ذاكرة عراقية > الساعات الأخيرة من حياة الملا عثمان

الساعات الأخيرة من حياة الملا عثمان

نشر في: 20 يونيو, 2010: 04:46 م

خالد محسن اسماعيل كان العصر عصره بلا منازع! حرمه الجدري نعمة البصر فحباه الله سبحانه وتعالى نعمة البصيرة وعاش في فيض النور، وكثير من المبصرين حوله يتلمسون مسالكهم.. عبثاً، في وهج الشمس، واطلقه في سماء الدولة العثمانية نجما تتنازعه عرائس الالهام..
فكان القارئ المقرئ المتصوف الشاعر الثائر الموسيقار الصحفي السياسي شعلة الذكاء وبهجة المجالس ومهوى افئدة الناس. قريبهم وبعيدهم فالكل في هوى الملا عثمان أسير! ترى كيف اجتمع كل (هؤلاء) في (واحد) فكان (طاقة) فواحة باعذب الفنون؟ أجل.. انها ارادة الله تعالى في خلقه، يهب لمن يشاء حياة او بعض حياة ويهب لمن يشاء الحياة كل الحياة فتبارك الله تعالى احسن الخالقين. وفي الذكرى التاسعة والستين لوفاته (30 كانون الثاني عام 1923) يطيب لنا ان نستذكر الملا عثمان باستذكار الساعات الاخيرة من حياته التي امتدت ايضا تسعة وستين عاما (1854 -1923) كما يرويها تلميذه رفيق لحظات الموت المقرئ البغدادي الاصيل الاستاذ عبد الفتاح معروف. ففي مغرب يوم الخميس الرابع من تموز عام 1985 كنت واحد الاصدقاء في دار الاستاذ عبد الفتاح في حي المأمون نستمع في ما نستمع الى تاريخ ما غفل عنه التاريخ. قال الاستاذ عبد الفتاح حين ذكرت له اسم الملا عثمان الموصلي، وهو يضرب ركبته بقوة شاب في العشرين لا شيخ في التسعين عنا.. في حجري اسلم الملا عثمان الروح! وانهمر كالغيث يروي وقائع ذلك اليوم المشهود وكانه يقرأ في كتاب مفتوح:في ضحى يوم مطير جاءني الى داري في محلة "سوق حمادة" في الكرخ (احمد) بن الملا عثمان يبلغني على عجل مضطرب أن اوافي والده ولم يزد ، وعبثا حاولت ان افهم منه اكثر من ان الملاً عثمان يطلب حضوري تواً، كنت اعلم انه غادر منذ ايام غرفته في جامع الخفافين الى دار اولاده في محلة، "فضوة عرب". بباب الشيخ بعد ان اشتدت عليه وطأة المرض، وأمسى قعيد عناية وخدمة. فما الذي حدث؟ وانطلقت كالمأخوذ انتهب الدروب الموحلة من مطر ذلك اليوم الباكي غافلاً.. من ذهولي، عن (احمد) الذي تركته ورائي يكافح من اجل اللحاق بي وقد شغله اضطرابه عن تجنب وحل الطريق وانهمار المطر.. لقد احبني الملا عثمان وقربني اليه وخصني بكثير من فنونه وشؤونه ، كانت قراءتي ترضية وضبطي للاصول يطربه، كان يجد في تلاوتي وانشادي مما لايجده في الاخرين لأنني، كما كان لي يقول غير مرة..لا اقلد احدا من القراء.. كان يناديني بالطف الاسماء واحلاها، يناديني بـ "بني" فضلا عن اسمي، وبين (ابني) و(عبد الفتاح) يجري اسمه على لسانه بوجوه المؤانسة المودة: فتاح، ..فتحي.. فتوحي.. فتوح! ويكف الاستاذ عبد الفتاح عن حديثه وينقل وجهه في وجوهها وكأنه يفيق من حلم جميل ليستأنف رواية وقائع ذلك اليوم.. وفي الدار وجدت الملا عثمان طريحاً في احدى الحجر، وما كادت عيني تقع عليه حتى أيقنت انه، ويا فجيعة ما أيقنت ، يعالج ساعاته الاخيرة، وحين احس بحضوري استدناني منه فدنوت وجلست عند رأسه فلم يلبث ان طلب لي ان اقرأ له القران، وكأنه استبطاني وانا اقلب وجوه الرأي في ما ينبغي لي ان اقرأ فقال : اقرأ فأنا ما زلت حياً يا عبد الفتاح! وانشأت اقرأ سورة "الذاريات" ثم لم ألبث ان دهمني شعور جعلني اقرأ وكأني في حضرة الرحمن وانني أؤدي امام الله تعالى شهادة للملا عثمان: "ان المتقين في جنات وعيون".. اخذين ما اتاهم ربهم انهم كانوا قبل ذلك محسنين ، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالاسحار هم يستغفرون وفي اموالهم حق للسائل والمحروم.. الى اخر السورة الكريمة.. فتحرك الملا عثمان وتمتم: زد! فبدأت بالسورة التي تليها، سورة "الطور" ولما وصلت الى قوله تعالى "ان المتقين في جنات ونعيم، فاكهين بما اتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم، كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون دمعت عيناه وسالت على خديه الدموع وقال: زد! فواصلت القراءة. حتى اذا انتهيت الى قوله تعالى: كل امرئ بما كسب رهين، وامددناهم بفاكهة ولحم، مما يشتهون، يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم، ويطوف عليهم  غلمان كأنهم لؤلؤ مكنون، واقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قالوا انا كنا قبل في أهلنا مشفقين، فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم، انا كنا من قبل ندعوه انه هو البر الرحيم طلب الملا عثمان الماء، فدنوت منه، ورفعت رأسه ووضعته في حجري وارتج علي، فليس في الحجرة الا نحن الثلاثة ، الملا عثمان وانا والموت، فانحنيت عليه وقلت له وكأن المتكلم شخص اخر غيري.. تشهد !فردد الملا عثمان الشهادتين، وأدنيت الماء من فمه وسقيته قطرات، ثم أدنيت الماء ثانية وسقيته قطرات اخرى لكنها غرغرت في حلقه وأسلم الروح!وفزعت الى من في الدار احمل اليهم وقوع المصيبة ونفاذ قضاء من لا راد لقضائه سبحانه وتعالى!-فتحي تجهز..ابوك مات! وانحنيت جانبا وجهشت لبكاء طويل.. وهنا تهدج صوت الاستاذ عبد الفتاح معروف وكفكف دمعاً سال على الخدين الضامرين وأمسك فأمسكنا. وفي ذلك اليوم المطير، الثلاثاء الثلاثين من كانون الثاني عام 1923 حمل المشيعون جسد الملا عثمان الموصلي وعادوا به الى الارض في مقبرة الغزالي، اما روحه فقد

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

هل كانت ثورة 14 تموز في العراق حتمية؟

هل كانت ثورة 14 تموز في العراق حتمية؟

د. عبدالخالق حسين لو لم يتم اغتيال ثورة 14 تموز في الانقلاب الدموي يوم 8 شباط 1963، ولو سمح لها بمواصلة مسيرتها في تنفيذ برنامجها الإصلاحي في التنمية البشرية والاقتصادية، والسياسية والثقافية والعدالة الاجتماعية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram