علي حسن الفوازثمة ما يدعو للاحتفاء بالشاعرة نازك الملائكة دائما، وهذه الدعوة لا تنطلق من فكرة الاحتفاء او الاستعادة بقدر ما هي محاولة للبحث الدائب عن النسق القوي في الشعرية العراقية، خاصة وان اخطر ما يهدد هذه الشعرية هو غياب النسق، اذ ان مفهوم الغياب تحول من مفهوم زمني الى مفهوم تاريخي وسياسي كثيرا ما يرتبط بطبائع المهيمنات التي فرضت نفسها على التاريخ العراقي المعاصر،
وأسهمت في إنتاج الكثير من(الفراغات) مقابل إنتاج العديد من الأوهام الشعرية والنقدية..من هنا أجد أن الاحتفاء بنازك الملائكة هو استقراء شاملة لمفهوم النسق في ضوء نظريات القراءة، وفي سياق ما يمكن ان يثيره النسق من اسئلة تتعلق بطبيعة تشكل الظواهر الشعرية والنقدية في مشهدنا الثقافي الخاضع تاريخيا ل(الاستبداد الشعري) واحسب ان هذا الخضوع هو ذاته الذي واجه الملائكة حينما حاولت ان تمارس لعبة الخرق القرائي للنسق التاريخي، وهو الذي جعل من هذا الخرق ذاته مشكلة أخلاقية واجتماعية وليست ثقافية، خاصة اذا اسندنا الطبيعة الثورية للقراءات المبكرة التي اقترحتها نازك الملائكة لتاريخ القصيدة العربية ومنجزها، واذا اسندنا ايضا هذه الثورة التي ارتبطت بسياق قرائي ترك اثره على تجربة نازك الشعرية وعلى مغامراتها في النظر إلى الأشياء والصور والتفعيلات والرؤى التي تساكن القصيدة، فهي تأثرت بالمدرسة الرومانسية المصرية التي تعدّ واحدة من التجديدات الشعرية العربية في الأربعينيات من القرن الماضي، ناهيك عن تأثرها بالمدرسة الرومانسية الانكليزية في القرن التاسع عشر.هذه التأثرت هي التي الهمت نازك الملائكة في مراحل وعيها المبكر، وهي التي أعطت لها هذا النزوع المتمرد الساخط والسوداوي للحياة، لكنه المتفجر بالصور المثيرة، والأفكار الدافقة، والإزاحات التي لم تستوعبها البنية البلاغية التقليدية في الشعر العربي. كما ان هذه التأثرات هي ذاتها التي وضعت نازك الملائكة في السياق التجديدي المثير في الشعر العربي عبر البحث عن رؤى جديدة مغايرة، وعبر البحث عن خلاصات من عوالق ما هو مهيمن في النمط والذاكرة والخطاب.. ومع الاحتفاء بالذكرى الثالثة لرحيل الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة، نحاول البحث عن جدّة في التعاطي مع قراءة مشروعها الشعري، اذ ان هذا المشروع كثيرا ما وقع في سياق الاستعراضية التي اكتفت بريادة نازك الملائكة، وربما اكتفت بالطبيعة المثيرة التي اقترنت بتجربتها التجديدية القلقة..مع هذه الذكرى يمكن ان نستعيد الكثير من الملفات التي تتعلق باشكاليات التحديث الشعري والتحديث النقدي في فضاءات القصيدة العربية، وكذلك في التفاعل مع العديد من الأسئلة التي تتعلق أيضاً باثر هذه(التحديثات) التي استهلمت نازك الملائكة شفراتها، واستقراء انعكاسات أثرها على الواقع الثقافي العربي والعراقي، ناهيك عن خصوصية الشاعرة/الانثى نازك الملائكة ورياديتها في تجاوز عقدة(الأنوثة) لتكون الحاضرة بامتياز في التاريخ والنص والواقع، وعقدة كتابة القصيدة التقليدية بكل مرجعياتها ومستوياتها، وكذلك استقراء الطبيعة التجديدية التي ارادت الملائكة إسباغها على شكل القصيدة وعلى مضمونها، خاصة مع كل انشغالاتها بالتأثرات الكبيرة التي بدأت مع الرومانسية العربية المجددة، وانتهت بالرومانسية الانكليزية الباحثة عن نوع مكن الثورة الجمالية على نمطية القصيدة الواقعية الطبيعية. لقد انجزت الملائكة إبداعاً كبيرًا في مجالات الشعر والنقد، وفي مجالات الدرس الأكاديمي الأدبي، وهذا الانجاز الإبداعي أثار الكثير من الإشكالات حول طبيعة اشتغالاتها، وطبيعة رؤاها، وكل ما يرتبط بأزمة وعيها بالجديد وهي التقليدية في بيئتها وفي صرامة درسها وتعلمها، فضلا عن إشكالية التزامها بالنهج التجديدي الذي طرحته مع مقدمتها المثيرة للجدل في ديوانها(شظايا ورماد) والذي استشرف واقعا تجاوزيا، مثلما استشرف رؤى نافرة فيها الكثير من الجرأة والشجاعة في التعاطي مع تاريخ قار للنمط الشعري العربي. لكن هذا النهج التجديدي المغاير سرعان ما اوقعها في قلق التجاذب بين اندفاع مشروعها التجديدي، ومابين ذاتها الشعرية المسكونة بقوة الاب القديم، وهذا القلق هو الذي جعل مشروعها الشعري والنقدي يتعرضان إلى أزمة قراءة، وأزمة إجراء، اذ عمدت الشاعرة عبر قهرية هذا القلق الى استدراك الكثير من معطيات منظورها النقدي التي طرحتها سابقا الى استعادات محافظة من خلال كتابها(قضايا الشعر المعاصر)الصادر 1962في سياق مراجعتها للمعالجات النقدية وقرائنها مع النموذج الشعري، اذ اسبغت على اشتغالاتها في المناهج الحديثة نوعا من المغايرة التي تجاوزت ماكانت تراه في الشعر على انه مسكون بالحرية، وما يحوزه من عمق فني خالص الى رؤى تتحفظ على تقعيدات مفهوم الثورة، اذ رأت الشاعرة في مفهوم الحداثة بأنه محمول على تغييرات وإزاحات في النظر إلى القصيدة، لكن هذا المحمول لا يعني التجاوز على البنيات الأساسية للقصيدة كالوزن والقافية والمستوى الصوتي وحتى البلاغي، وهذا طبعا ما كان يتعارض مع ما إثارته في مقدمتها النقدية في ديوانها(شظايا ورماد) التي حاولت من خلالها إيجاد فضاء أكثر تحديثا وأكثر تجاوزا في النظر النقدي للقصيدة
فـي الذكرى الثالثة لرحيلها..الشاعرة نازك الملائكة..استعادة التاريخ أو استعادة النسق
نشر في: 22 يونيو, 2010: 04:38 م