فيء ناصرحينما كانت بقاع العالم مجهولة للكثيرين ومتعة السفر غير متاحة لكل الناس، كان أدب الرحلات لايكتب للتسلية أو مجالاً للكاتب للعربدة بحرية في الأماكن الغريبة، كان وصف البلدان النائية أهم مبتتغى للرحالة، وكان كذلك، لجعل الناس ينتقلون الى بقعة اخرى من العالم ولو ذهنياً،
كان الغرض الأساسي لهذا النوع من الأدب هو التعلم وتوسيع المدارك اكثر منه للتسلية والترفيه. وهذا بالضبط ما كان متوقعاً من المختارات الجديدة لادب الرحلات التي كتبها شارلز ديكنز، والتي صدرت عن دار (هسبريوس برس/2010) في 112 صفحة. بالتأكيد، يحتوي الكتاب على بضع صفحات طوال من الوصف الناشف للأماكن وفي صفحات اخرى، يتحول الوصف الى ريبورتاجات إنثروبولوجية تشبه الى حد كبير ما كتبه ماركو بولو او إبن بطوطة، ولكن هناك صفحات أكثر من الوصف الدافيء المصحوب بالحوارات والفكاهة، وقد يجد القارئ نفسه يقهقه فجأة مع الكاتب الذي مخر عباب الاطلسي وإستقل القطار البخاري الى باريس وزار جميع أرجاء إيطاليا أو ببساطة، يصحح مسالك الدروب لسائقي سيارات الاجرة في لندن، لقد عاين الكاتب الواقع وعاش الحياة وإستمع الى احاديث الناس وإن كانت معيبة، لذا فقد شعر بمفارقات حيوات هؤلاء ونقل كل ذلك الى قارئه ببذخ. ديكنز يصحبنا في هذه الرحلات معه ويجعلنا نحس بمشاعر الناس حوله وكيف يعيشون حياتهم ، مثلا عندما يرحل بسفينة من بريطانيا الى امريكا ويراقب بعين الكاتب، إمراة ورجل، على متن السفينة، غامضان ويهربان من الناس وكيف ان الرجل يحمل مسدسات اكثر من روبنسون كروزو نفسه. ويتابع الوصف (أتذكر إنه جرب خنزير مشوي وقدح من البيرة كعلاج لدوار البحر وكان يأخذ وجبته إلى قمرته يوماً بعد اخر بمواظبة مدهشة). هذه المقاطع الطريفة تجعل من أدب الرحلات الذي كتبه ديكنز حيوي وحداثوي في ذات الوقت، فهو لا يتحدث فقط عن الأماكن لكنه يَتَسمّع باذنه حتى اللغو وتوافه الأشياء ويصوّر الجمال والشباب كما الشيخوخة لأنه ينظر بعين ديناميكية إلى حياة الآخرين. وحين يرتحل ديكنز بالقطار الى فرنسا يكتب: ( لقد لاحظتُ إن الفرنسيين قد كبروا بأحجامهم او كأنما إستطالوا والانكليز بدأوا بالإنكماش، الفرنسيون في وطنهم تقريبا، وها هم ينفضون عنهم غبار غربتهم بينما نحن نلتفع بغبارها، هذه الإلتقاطات البسيطة لمشاعر البشر تبقى صحيحة في الحاضر كما كانت في الماضي، طبقات التخيّل الواقعية هذه، تجعل من حكايات ديكنز حقيقية وغنية، ويبدو إنه أدرك منذ وقت طويل إن السفر بحد ذاته ليس مثيراً، ولكن الناس في الأمكنة البعيدة هم من يمنح السفر متعته وذكرياته، والمدن وحكاياتها تستمد حياتها من حياة البشر فيها. هذه المختارات البسيطة المنتقاة من كتابات شالز ديكنز عن رحلاته، معنيّة بالناس قبل الاماكن وهذه الخاصية هي من تجعل اي كتاب يستحق القراءة وكما ترد عبارة لديكنز في هذا الكتاب: ( كلما زادت معرفة الإنسان بالانسان كلما زادت الاخوة بين بني البشر).
مراجعات..تشالز ديكنز الرحال
نشر في: 22 يونيو, 2010: 04:41 م