شاكر لعيبييمكن للسياق الذي كتب به العلامة ابن خلدون عمله، وهو ابن الثقافة العربية، أن يمنحنا الإحساس العميق بأن فكرته المتعلقة بالعمران والصنائع تنطبق على كل أمةٍ ما عدا العرب.إن درسَهُ المكرّر مراتٍ ومراتٍ في المقدمة عن طبائع العرب الذي لن يرضي البتة مزاجات (القومجيين العرب) المعاصرين وقد يجعلهم يشتعلون غيضاً،
وبشكل أخصّ طروحاته في "فصل أن العرب جيل من الخلقة طبيعي" و"فصل في العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك" و"فصل في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع" وما يلازمها من تلميحات وتصريحات بهذا الشأن. ذاك الدرس يبدوا للقراء الأقل قومانية، درساً من طبيعة لا تاريخية قليلاً أو فوق- تاريخية لأنه يستند، بالضبط، إلى تصوُّرِ وجودِ جماعةٍ ثابتةٍ خارجَ التاريخ، والاعتقاد بوجودِ عَرَبٍ أزليين لا تنطبق عليهم، أو لم تنطبق البتة شروط العمران. في المخيال الخلدوني، كما في التصور الاستشراقي البائد والبعض من الخيال الغربي المعاصر ثمة عربٌ بدوٌ أقحاحٌ ظلوا ثابتين في البداوة رغم مضيّ عدة قرون من كتابة المقدّمة على الأقل، ورغم انتقالهم وعيشهم منذ القرن الثامن الميلادي على أقل تقدير وحتى وفاة ابن خلدون في بداية القرن الخامس عشر، هذا إذا افترضنا أنهم لم يسكنوا أبداً قبل ظهور الإسلام في مُدُنٍ. إن ما كان يراه يقيناً المؤرّخ الكبير من استقرارهم في مدن حضرية يعدّدها، بقلمه، مثل بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان ومدن الأندلس وفاس وغيرها لم يزحزح قناعته قيد أنملة بشأن مجرد إمكانية انتقالهم إلى طبيعةٍ اجتماعيةٍ وسلوكيةٍ أخرى غير بعدهم عن السياسة والصنائع.وفي ظني فأن مُسمَّى العرب يُطلق من طرف ابن خلدون على بُداة العرب بالدرجة الأولى، ولا ندري لماذا لم يُسَمِّهِم كما فعل القرآن أعراباً. لكن إطلاق العرب على الأعراب كان دأباً لدى بعض المؤرخين المعاصرين لابن خلدون وللغالبية المطلقة من المؤرخين الرسميين للدولة المملوكية في مصر فيما بعد، حيث لا نعدم استخدامهم، أثناء سردهم للوقائع، تعبيرات مثل "وهجم العرب على كذا" و"تمرد عرب سيناء.." وما شاكل للتعبير عن سكان صحراء سيناء.ونحسب أن ثمة تعميماً قديماً من طبيعة لا تاريخية بإطلاق صفات البداوة على العرب قاطبة لأسباب منها أيديولوجيّ صراعيّ ومنها من طبيعةٍ عرقيةٍ لم يعد يقبل بها أحد اليوم، وليس بالضرورة بسبب جهل معرفي، بحيث يبدو الجميع وهم يتناسون ازدهار الحواضر في (العربية السعيدة Arabia Felicia) المتوغلة في الأدبيات الرومانية منذ وقت مبكر. قلة قليلة من الغربيين لم تفعل ذلك وقدّمتْ مفهوماً أقل صحراويةً عن العرب ورأتْ، كما فعل فرناند بروديل في كتابه "الرَأْسمَلَة والحياة المادية 1400-1800"، أن سكان مدينة مثل مكة كانوا من التجّار المستقرين بينما كان سكّان يثرب من مزارعي النخيل المستقرين بدورهم في حاضرة مدنية تقع فيها حتى الجدالات الدينية بين مختلف الأديان. لو كان ابن خلدون معاديا للعرب فإننا أمام خلل سياقي من طرف المؤلّف، فهو يطلع من ثقافته العربية معلناً جديداً للفكر العالمي لكنه يصرّ إصراراً على بقاء الشعوب العربية المحايثة له في بداوة ممحوّة الملامح وأزلية ولا تقبل الشفاء. استنتاج من الصعب اليوم قبوله طالما أننا نشتغل ونعمل وننتج في سياق التعقيد البالغ لثقافتنا والمؤثرات الداخلة في تكوينها منذ البدء، مثلما كان الحال منذ زمان العلامة وحتى اللحظة. ونحسب أن تأبيد العرب في وضعيةٍ واحدةٍ ثابتةٍ استجاب، منذ أن نُشرت المقدمة، لهوى تصنيفي وجغرافي صارم لشعوب العالم، أو لجغرافيا استعمارية إذا شئنا، ولعلّه كان سبباً قوياً من أسباب رفع ابن خلدون لمصافٍ لم يحضَ به، حالياً على الأقلّ، أيّ مفكّر أو فيلسوف عربي آخر في العالم الغربي، سوى ابن عربي.من هذا المنطلق وبعيداً عن الخلل السياقيّ المشار إليه، بل في إطار تاريخي محدّد، لا يتوجب فصم عرى فكر ابن خلدون عن المرجعيات والمصادر العربية العقلانية التي يمكن أن يكون قد طلع عليها. فإن فكره بشأن العمران والصنائع يتابع، بدقة أحياناً، مجهودات إخوان الصفا (القرن العاشر الميلادي) التوليفية وابن مسكويه والتوحيدي بشكل خاص، ثم الطرطوشي وابن رضوان والماوردي وابن النفيس وغيرهم، بالإضافة إلى القزويني (توفي عام 1280 أو عام 1283) الذي يقدم في كتابه "آثار البلاد وأخبار العباد" نظرات اجتماعية وأنثروبولوجية متقدّمة أيضاً. إن أحد فصول كتاب التوحيدي (ت 1010 م) (الهوامل والشوامل) المتقدِّم في الزمن لا يمكن إلا أن يكون مرجعاً أكيداً لابن خلدون، ويتوجب إعادة الاعتبار له لتقييم المشروع الخلدوني. إن الإخوان وابن مسكويه وتلميذه التوحيدي (المعتزلي) ثم القزويني كانوا مراجع أساسية لابن خلدون (ت عام 1406) مثلما كان المقريزي (ت 1441)، صائد الحياة الاجتماعية والمتولّه بوصفها، تلميذاً لكن بالمعنى الدقيق للكلمة- وفي ذلك مغزى- لابن خلدون. ثمة مؤسسون أقدم من ابن خلدون ساهموا في بلورة (علمِ اجتماعٍ) جنينيّ عقلانيّ في التراث العربي. علمُ اجتماعٍ لا يتردّد في المرور على جميع الموضوعات الحيوية بما فيها الحقل التشكيليّ والجماليّ وفق لحظت
تلويحة المدى: موقف ابن خلدون من العرب
نشر في: 25 يونيو, 2010: 04:47 م