لطفية الدليمي بين آونة وأخرى تصلني من شركات الهاتف النقال هذه الايام عروض مراهنات على الفرق العالمية واسماء اللاعبين – الذين اجهل كل شيء عنهم -كما تصلني على الهاتف رسائل صوتية تطالبني بإرسال الإجابات بثمن محدد لشركة النقال،
فقد تحولت قبائل البزنس العالمية والعربية إلى استنزاف كل الممكنات واستثمار كل الكائنات عبر أرقام الهواتف النقالة التي اسميها (هوية قبلية معاصرة) بقصد إشباع نهمها المجنون للمال. ثقافة التنافس الودي في الرياضات الشعبية اختفت تماما من عالمنا المعاصر، وحلت مقامها ثقافة الثأر القبلي وتجييش العشيرة وتحميس الهازجين والمغنين، وإثارة معارك مسبقة بين ذوي المتنافسين حتى لتكاد تشعل حروبا حقيقية ليس للدبلوماسية فيها نصيب، وتتخذ لعبة كرة القدم مسارين متضافرين في هذه المعارك الساخنة، مسار البزنس والاستثمار المباشر للعبة شطرنج حية، يوجهها عبدة المال والمضاربات والمراهنات، والمسار الثاني هو (التنفيس) العاطفي والجسدي عن احتقانات متعددة المصادر لدى فئات الشباب من المشجعين المغمورين الذين يتماهون مع اللاعبين الأثرياء من النجوم، ويتزيون بأزيائهم وينافحون عن أدائهم، كما يدافع المتعصبون القبليون عن شرف القبيلة ومجدها ضد الغزاة والطامعين، ويرافق التعصب المتفاقم في ساحات كرة القدم إنفاق بلا حدود للمال، وتوظيف تجاري واسع لمفردات اللعبة من ثياب وباجات وصور تحوِّل لاعبيها إلى أيقونات معبودة تتبعها أوساط شبابية عريضة مفتونة أو مهووسة، ليس باللعبة ذاتها كنشاط إنساني، بل بلاعبيها النجوم، بفضائحهم وقصص حياتهم وإدمانهم وأزيائهم ورحلاتهم، ترى هل يلفت انتباه هؤلاء الشباب المفتونين حدث اجتماعي أو ثقافي أو سياسي بالقدر ذاته؟ وهل يتجه رأس المال الموظف للترويج في لعبة كرة القدم إلى تبني قضايا مصيرية كموضوع تهجير البشر وموضوع الحرية ونقص الكهرباء و الفقر ونقص المياه وتلوث البيئة والاحتباس الحراري ؟ ترى هل يجازف مستثمر أو ممول لتغطية حملة من أجل الطفولة المشردة في شوارع مدننا بربع ما تنفقه الدول على كرة القدم؟ كان الفيلسوف جان بول سارتر يقول( إن كرة القدم هي مجاز الحياة)، ويقلب فيلسوف آخر المقولة إلى ضدها (الحياة هي مجاز كرة القدم). من علامات هذا الزمن المضطرب أن القرن الحادي والعشرين يكرس الرياضة للقتال -ومثالنا مباريات مصر والجزائر - ويستدعي حروبا جاهلية تضحي بأخلاقيات التنافس الرياضي المعنوي على مذبح النجاح والتفوق على كل آخر، فالفوز هو الهدف مهما كانت الوسيلة إحياء لفلسفة ميكيافيلي، فالمتنافسون لا يفوزون لأن لهم قيمة كبرى، بل يكتسبون القيمة من الفوز، وليس هذا المبدأ حكرا على الرياضة وكرة القدم، فهو شريعة الفوز في الجوائز الأدبية أيضا، والتي يلعب لعبتها مستثمرو الثقافة العالميون الذين تحولوا إلى الساحات العربية ليشعلوا حروبا ناعمة خفية وأحيانا خشنة ومعلنة وتسقيطية بين المتنافسين على الجوائز المغوية. يكتب إدواردو غاليانو الأديب الأوروغوياني عن كرة القدم في كتابه( صناعة أكل لحوم البشر) ما يلي: «في يونيو (حزيران) سنة 2003 سقط أحد لاعبي الكاميرون، مارك - فيفيان فويه، صريعا فوق أرض ملعب مدينة ليون الفرنسية لكرة القدم. لم يكن ضحية ركلة من معتد قاسٍ، لم يلمسه أحد، مات فويه من الإرهاق، قضى عليه إيقاع كأس الاتحاد الأوروبي، مباراة تلو مباراة. لكن أي تقرير طبي لم يذكّر بأن فويه سقط ضحية هجوم من كرة القدم المحترفة، لكون هذا الداء غير وارد في أي من السجلات الصحية. لكن الحقيقة هي أن أجمل الألعاب وأكثرها شعبية تعمل على المستوى الصناعي الآن كآلة لتقطيع اللحم الآدمي والارتزاق من دماء اللاعبين». ويذكر حادثة غريبة عن مباراة فريدة لكرة القدم حافظ فيها المتنافسون على شرف التنافس الرياضي السامي، الذي لا يهدف إلى الفوز بقدر ما يؤدي اللاعبون في أجوائه الودية ألعابهم للتمتع والمرح وإسعاد أنفسهم ومن حولهم، «فوق قمم الهملايا كانت تجري مواجهة بين أسوأ فريقين في العالم، فريق مملكة بوتان ضد فريق جزيرة مونسرا في الكاريبي. كانت تنتظر الفائز في المباراة كأس فضية كبيرة. اللاعبون مغمورون، وليس من نجوم في صفوفهم، تسلوا وتمتعوا كثيرا، حيث التسلية القصوى كانت واجبهم الوحيد. وعند نهاية المباراة انفتحت الكأس الملصوقة لصقا إلى نصفين، وتقاسمها الفريقان. ربحت بوتان وخسرت مونسرا، لكن هذا التفصيل الذي يسمى فوزا لم يكن مهمّاً كهدف للعب».
قناديل ..المونديال وثقافة القبيلة الغازية
نشر في: 26 يونيو, 2010: 04:40 م