TOP

جريدة المدى > ملحق اوراق > الكتابة وفضاءات الحرية

الكتابة وفضاءات الحرية

نشر في: 26 يونيو, 2010: 05:03 م

أورهان باموكفي شهر مارس 1985، قام آرثر ميلر(1) وهارولد بنتر(2)، الكاتبان الأكثر شهرة وأهمية آنذاك في المسرح العالمي، بزيارة إلي مدينة استنبول. لكن المؤسف أن الهدف من تلك الزيارة لم يكن لحضور عرض مسرحي أو ندوة أدبية، بل كان تلك القيود الثقيلة التي فرضت علي حرية التعبير في تركيا، والزج بمئات الآلاف من الأتراك في السجون،
 في أعقاب الانقلاب الذي شهدته تركيا في خمسينيات القرن الماضي. وكما هي العادة دائمًا تصدر العديد من الكتاب التعساء قائمة الأكثر عرضة للاضطهاد شديد الوطأة.وفي كل مرة كنت أعود فيها إلي أرشيف الصحف و«روزنامات» ذلك الوقت، كي أذكر نفسي بما كانت عليه الحال في تلك الأيام، كانت ترتسم أمامي صورة تقدم تجسيدًا دقيقًا لتلك الحقبة ومعظم من عاصروها: الجندرما «عساكر» تحيط برجال رءوسهم محلوقة ويجلسون بوجوه عابسة تزداد عبوسًا كلما طال نظر القضية داخل غرفة المحكمة. وبين الرجال كان هناك العديد من الكتاب. وقد جاء ميلر وبنتر إلى استنبول لمساندتهم والالتقاء بهم وبعائلاتهم ولفت أنظار العالم إلى الوقت العصيب الذي يعيشونه. وكانت «الجمعية الدولية للشعراء وكتاب المسرح والمحررين وكتاب المقالة والروائيين» PEN(3) هي التي نظمت تلك الزيارة باتفاق مع Helsinki Watch Committe «لجنة هلسنكي المعنية بحقوق الإنسان. ويوم وصول ميلر وبنتر توجهت، وأحد الأصدقاء إلى المطار لاستقبالهما، وكنا قد كلفنا بمرافقتهما.كنت قد تقدمت إلى هذه الوظيفة ليس بشغف السياسة بل لأنني روائي يجيد الإنجليزية بطلاقة. وقد سعدت بالوظيفة ليس لأنها وسيلة لمساعدة أصدقاء كتاب في محنة، بل لكي أكون، ولو لبضعة أيام، في صحبة اثنين من كبار كتاب العالم.وبصحبة ميلر وبنتر زرنا دور نشر صغيرة تجاهد من أجل الاستمرار، صالات تحرير وبث أخبار تعيش الأزمة، ومقار مجلات صغيرة مظلمة على حافة الإغلاق. تنقلنا من منزل إلى منزل، ومن مطعم إلى مطعم، للقاء كتاب في ورطة هم وعائلاتهم.كنت، وإلى تلك الفترة، أقف علي هامش السياسة ولا أخطو إلى داخلها إلا مجبرًا. لكنني، وبينما كنت أستمع إلى حكايات خانقة عن الكبت، القسوة، والشر المطلق، شعرت بانجذاب مشوب بالذنب إلى هذا العالم، وأنني مشدود إليه، أيضًا بمشاعر التضامن وإن كنت قد شعرت، في الوقت نفسه، برغبة مساوية ومناقضة، تدفعني إلى أن أنأي بنفسي بعيدًا عن هذا كله وألا أفعل شيئًا في حياتي سوي تأليف الروايات الجميلة.ونحن نتنقل داخل سيارة أجرة من موعد إلى موعد، وسط زحام المرور في استنبول، أتذكر أننا تبادلنا الأحاديث حول الباعة والعربات التي تجرها الخيول وأفيشات الأفلام السينمائية والنساء السافرات منهن والمتشحات اللاتي يثرن دائمًا اهتمام الزائر الغربي. أتذكر أيضًا، وبشكل أكثر وضوحًا صورة: أنا وصديقي المرافق نقف عند نهاية ممر طويل في «هيلتون» استنبول نتبادل همسًا مضطربًا إلي حد ما، بينما ميلر وصديقه بنتر يجلسان يتهامسان بحدة غامضة مماثلة. لقد بقيت هذه الصورة محفورة في الذاكرة المضطربة ربما لأنها ترسم في اعتقادي، تلك المسافة الشاسعة ما بين تاريخنا المعقد وتاريخهم، وتوحي في الوقت نفسه بأن التضامن العزائي بين الكتاب كان ممكنًا.في كل اجتماع آخر مع كتاب داخل غرف معبأة بالدخان، كنت أشعر بالكبرياء المتبادل والعار المشترك. لقد أدركت ذلك وكان التعبير عنه علانية أحيانًا، وألمسه بنفسي في أحيان أخرى أو أراه في تلميحات وتعبيرات الآخرين. كان معظم الكتاب، المفكرين، والصحفيين، الذين التقينا بهم، غالبًا ما يعرفون أنفسهم، في تلك الأيام، بأنهم من اليسار. لهذا يمكن القول بأن مشاكلهم كانت ذات علاقة بالحريات التي يحظى بها الديمقراطيون في الغرب الحر. بعد ذلك، وبعشرين عامًا أرى ما يقارب نصف هؤلاء يقف في صف واحد مع أصحاب الاتجاهات القومية المتنازعة مع اتجاهات غربية وديمقراطية. ومن المؤكد أن هذا الأمر يشعرني بالحزن.لقد تعلمت من تجاربي، كدليل، والتجارب المشابهة لآخرين، شيئًا نعرفه جميعًا وأرغب في انتهاز الفرصة للتأكيد عليه الآن: إن حرية التفكير وحرية التعبير هما من الحقوق الأساسية العالمية للإنسان دون النظر إلى طبيعة الدولة. وهذه الحريات التي يشتهيها الإنسان المعاصر، كما يشتهي الخبز والماء، لا يجب تقييدها باستخدام عاطفة قومية أو حساسيات أخلاقية، أو مصالح تجارية أو عسكرية. والأخيرة هي الأسوأ علي الإطلاق. وعندما يعاني العديد من الدول خارج العالم الغربي، وبخجل، الفقر، لا يكون ذلك بسبب أنها تملك حرية التعبير، بل بسبب أنها لا تملك هذه الحرية. وبالنسبة لهؤلاء الذين يهاجرون من دولهم الفقيرة إلى دول الغرب والشمال، هربًا من صعوبات اقتصادية واضطهاد وحشي، يجدون أنفسهم، وكما نعرف، تحت وطأة وحشية أشد، بسبب عنصرية يتعرضون لها في دول غنية. نعم، يجب أن نتنبه أيضًا إلي هؤلاء الذين يشوهون سمعة المهاجرين والأقليات بسبب معتقداتهم الدينية أو أصولهم العرقية، أو بسبب آثار البطش التي تتركها ممارسات حكومات الدول التي جاءوا منها، على مواطنيها. لكن احترام إنسانية ومعتقدات الأقليات لا يعني أننا يجب علينا تقييد حرية التفكير. واحترام حقوق ومعتقدات الأقل

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

دستويفسكي جوهر الروح الإنسانية

دستويفسكي جوهر الروح الإنسانية

لكن الفكرة المركزية التي سيطرت على دستويفسكي كانت الله والذي تبحث عنه شخصياته دائما من خلال الأخطاء المؤلمة والإذلال.يقول دستويفسكي على لسان الأمير فالكوفسكي في رواية مذلون مهانون (.... لكنك شاعر ,وأنا إنسان فان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram