نجدت فتحي صفوة من العادات التي يكاد يختص بها الشعب العراقي، من سكان المدن او ابناء العشائر على السواء، هو انشاء الاهازيج (او كما تسمى بالعامية "الهوسات") التي يرددونها حينما تسود جماهيرهم روح الحماسة او الهياج في المناسبات السعيدة rn
او الاحداث المؤلمة، وفي اوقات الحروب او الغزوات، والتجمعات العامة، الواسعة منها والصغيرة. وتنطوي معظم هذه الاهازيج على معان عميقة ومغاز بعيدة، وكنايات حكيمة، وكثيرا ما تتضمن بعض المحسنات اللفظية كالتورية والجناس.. ولا يعرف قائلو هذه الاهازيج او مؤلفوها على وجه التحديد، فهي تنبثق عن وجدان الشعب على لسان اشخاص مجهولين لاشك انهم يتمتعون بذكاء حاد وموهبة خاصة في صياغتها. وكان رجال العشائر ونساؤها، يرتجلون هذه الاهازيج في المناسبات المختلفة، وهي تتضمن التفاخر بالعشيرة ونسبها وبسالتها، والنيل من اعدائها او التهكم عليهم او تجريدهم من الفضائل.ويدعى ناظم الاهزوجة ـ او "الهوسة" ـ "المهوال" ، ولعل التسمية تدل على المدهش او الكثير الهول.وكان من اهم المناسبات التي تظهر فيها هذه الاهازيج وتنتشر هي ظروف الحرب او الغزو بين العشائر بصورة خاصة، ولكنها تظهر ايضا بين سكان المدن في المناسبات المختلفة، وخاصة خلال التظاهرات والاجتماعات العامة حيث تسود "نفسية الجماهير". وتنشد الجماهير هذه الاهازيج بصوت واحد، ولها وزن معين رنان، وهي اذا زادت عن مقطع واحد تكون مقفاة. كما انها تنشد بنغمة خاصة او ايقاع معين معروف. وتحتوي معانيها احيانا على نصائح او عبر، او تنبيه للسلطة الحاكمة او شيخ العشيرة، كما قد تتضمن حكمة شعبية، او ترثي قتيلا، او تستثير نخوة، او تطالب بثأر، او تشجع على قتال، او تحرض على عمل من الاعمال. وكانت الثورة العراقية في عام 1920 ضد الاحتلال البريطاني والحكم الاجنبي من المناسبات الوطنية المهمة التي انتشرت فيها الاهازيج الوطنية والسياسية، فرددتها الجماهير، وتناقلتها الافواه. ولعل من اشهر تلك الاهازيج قولهم "الطوب احسن لو مكواري" (والطوب معناه المدفع، وهو كلمة تركية انتشرت في العراق كثيرا) ولكنني لا استطيع ان اجزم هل ظهرت هذه "الهوسة" خلال ثورة العشرين ام عرفت قبلها، حينما كانت العشائر تصطدم بقوات الدولة العثمانية احيانا.وفي بداية الثورة، حينما كانت العشائر الثائرة في اوج حماستها، والقوات البريطانية تتراجع امام الثوار، انتشرت "هوسة" مفادها ان الانتصار على الانكليز سيكون هينا الا اذا استنجدوا بالامريكيين، وكانت جماهيرهم تردد:"بس لا يتعلك بامريكة"(يتعلك: يتعلق)ولكن حينما تراجع الثوار امام القوات البريطانية التي استعانت عليهم بما وصلتها من تعزيزات واسلحة حديثة وطائرات، صور احدهم حالتهم قائلا: "كطان حميد صرت آنه"اي انني اصبحت مثل "كطان" حميد، والكطان ـ او "القطان" ـ نوع من السمك معروف في جنوب العراق. وهذه "الهوسة" تشير الى قصة كانت مشهورة في زمانها، وهي عن سماك يدعى حميد (بالتصغير وتشديد الياء) القى شبكته في النهر، فما لبث ان شعر بجسم ثقيل فيها، وتخيل فرحا انه اصطاد صيدا ثمينا، ولعله من سمك "الكطان"، ولكن فرحته لم تدم حين اكتشف ان الشبكة اصطادت حجرا كبيرا. ويشبه قائل "الهوسة" نفسه بـ "حميد" الذي لم تطل فرحته، ومغزاها واضح ودلالتها عميقة.ولما سمع الناس ان الشيخ ضاري او رجاله قتلوا "ليجمان" الذي كان قد اصبح اسطورة من اساطير الصحراء في قسوته وبطشه، خرجت الجموع "تهوس" مكبرة هذا العمل الذي قضى على احد اعمدة الاستعمار، متخيلة وقعه في انكلترة."هز لندن ضاري وبجاها" (بجاها: ابكاها)ولعل من أبرع (الهوسات) التي انتشرت خلال ثورة العشرين، واكثرها دلالة على الذكاء الفطري الحاد، والنكتة اللاذعة هي تلك التي ارتجلها احدهم حين شاهدت العشائر في منطقة الرميثة طائرة حربية، وكانت اول طائرة يشاهدونها فتعجبوا لمرآها اشد العجب. ولما فت في عضد الثوار، وتفرق شمل معظمهم، وبدأت سلطات الاحتلال اعمال الانتقام وتحصيل الغرامات التي فرضتها على العشائر الثائرة، ، توفي احد رؤسائها، فأخذ بعض رجاله يهوسون:"بلشها ونام بسردابه" اي انه بدأ الثورة، وشجعهم عليها، ولما آن اوان الغرامة، نام في سردابه، اي مرقده.وهناك عدد كبير من الاهازيج او الهوسات الطريفة ذات المغازي السياسية والاجتماعية التي قيلت في مناسبات مختلفة ولا تزال ترن في اذني مثلا تلك التي اجتاحت شوارع بغداد، وترددت على السنة جماهيرها، يوم مقتل الملك غازي (وهي من نوع مختلف طبعا) الله اكبر يا عربغازي انفكد (انفقد) من دارهواهتزت اركان السمامن صدمة السيارة... الخ..ومن المؤسف ان هذه الاهازيج الوطنية والسياسية، وهي كثيرة لا تحصى، بقيت تتناقلها الافواه، ولكنها لم تصن بالتدوين، فنسي معظمها او كاد، ولم يبق منها الا ما علق بذاكرة بعض الذين ادركوا المناسبات التي قيلت فيها، او ما تناثر في بعض الصحف الصادرة في وقتها.كما ان ا
أهازيج ثورة العشرين
نشر في: 27 يونيو, 2010: 04:26 م