عبدالله السكوتيكان يشكل وجع رأس لأسرته، وأسوأ تلميذ في صفه وكان يبدو انه لا مخرج من ذلك الوضع المخجل، الى ان أقام أبو التلميذ الخائب مأدبة للمعلم، وبعد ليلة طويلة من المدائح وكرم الضيافة، رجع المعلم الى بيته محملا بالهدايا، وفي اليوم التالي، تحول أسوأ طالب الى أفضل تلميذ.
هذه القصة رويت قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، وتدلل على ان الرشوة هي واحدة من أقدم عادات الحضارة، لقد اكتشفت القصة على ضفاف نهر الفرات رواها السومريون، برموز تشبه آثار قوائم العصافير، مرسومة بقصبة مدببة على واحد من ألواح الطين التي اختفت من متحف بغداد. وهذه عادات الحضارة أيضاً رواها ادواردو غاليانو في كتاب أفواه الزمن تحت عنوان (تقاليد)، مما يعني ان الفساد المالي والإداري رافق الإنسان منذ نشوء حضارته ولكنه مع هذا لم يضع العراق في المرتبة الرابعة ما قبل الأخيرة من ضمن (180) بلداً.بعض الأحيان هناك فساد في النزاهة ونزاهة في الفساد حين تختلط الأوراق كما في العراق الآن، والا لما تكهن رئيس هيئة النزاهة ان هناك فسادا في وزارة الكهرباء لكنه يفتقر الى الدلائل، وكأنه يريد ان يحقق المثل القائل: (الجمل لو طاح كثرت سجاجينه)، اين كانت النزاهة من وزارة الكهرباء خلال الأعوام المنصرمة، وكيف لقاض يعرف أصول القضاء ان يسير خلف التكهنات.ان نظام الإصلاح في العراق برمته يحتاج الى إصلاح، وكما حدث في زمن النظام السابق حين تقرأ اللوحة المعلقة على جدران (أبي غريب) مؤسسة إصلاح الكبار وحين تدخل لها تجد أنواع الجرائم والخروق من سرقة الى تعاطي الحبوب المخدرة الى أمور أخرى، وأكثرها ظهورا اللصوصية التي كان يتمتع بها النزلاء بمباركة الحراس ففي يوم المواجهة، كان الزوار يخرجون بجيوب فارغة وأوراق رسمية مسروقة لتنتفخ جيوب النزلاء والحراس على حد سواء، كان الحراس هم من يدخل حبوب الهلوسة لبيعها على النزلاء من قبل عملائهم في القاعات، هذا النظام الإصلاحي العفن أسس لمفهوم خاطئ امتد الى السنين الحالية، وذلك لتعلق الممارسات القديمة في نفوس البعض، المنصب والرتبة والكرسي، أصبحت للغنيمة، وأموال تجبى واحدهم يقول: اذا لم تدخل في جيبي تذهب الى جيوب أخرى.قبل هذا وبعد نشوء الديانات ظهرت قضية مهمة اعتقد الناس انها نسبية، هي قضية الحلال والحرام، والتي نشأت على أنقاض معادلة الصح والخطأ، وهي قضية تتعلق بعقوبات مؤجلة بعد ان انحسرت عقوبة إقامة الحد وبقي الإنسان وربه وانه اي الرب واسع الرحمة ولذا فان حياة الإنسان تتحمل الكثير من الأخطاء والخروق، وتثقف المجتمع ان فعلا خيرا واحدا يمحو آلاف الاعمال السيئة ؛ وهكذا ادلجوا للأمر حتى أصبحت المجتمعات الإسلامية من اكثر المجتمعات التي تعج باللصوص والمفسدين، والقائمون على الأمر في حيرة من أمرهم لانهم فرطوا بأموال الناس، ولا يمكن ان تقيم الحد على لص حين ينتشر الجوع، وقول أبو ذر الغفاري فيها يمثل قاعدة إسلامية رصينة: (عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه)؛ وهذا يأتي في النهي عن تجويع الناس وسرقة أموالهم وإجبارهم على الانحراف، والسرقات الكبيرة قد وجدت وقبل هذا التاريخ عند الطبقات الحاكمة والنبلاء والأمراء، في التوزيع غير العادل للثروة وتبني مشروع الأقارب والأصدقاء، وجعل الناس طبقات فلان شارك في معركة كذا فهو يأخذ اكثر من الذي شارك في المعركة التي تلتها، وهذه العملية قديمة وتغلغلت في النفوس لتصبح قاعدة هي الأخرى؛ ورشات العمل التي تقام في البلدان المجاورة بمشاركة خبراء في القانون دوليين كلها تريد تحجيم ظاهرة الفساد في العراق، وآخر ما صرح به خبيران فرنسيان في القانون، ان العراق يعاني ما يعاني بسبب العزلة التي مرت عليه وعدم اطلاع القضاة العراقيين على المعالجات الحقيقية لهذه الجرائم النكراء.
هواء فـي شبك: عادات الحضارة
نشر في: 27 يونيو, 2010: 06:52 م