د. عبدالجبار الرفاعي في مطلع السبعينيات من القرن الماضي وعندما كنت طالبا في بغداد تعرفت على فكر السيد محمد حسين فضل الله، عبر كتابه (( اسلوب الدعوة في القرآن)) و الافتتاحية الثانية لمجلة((الاضواء))، اذ كانت الافتتاحية الاولى تحت عنوان ((رسائلنا)) يكتبها السيد الشهيد محمد باقر الصدر، وعادة ما كانت الاضواء تعززها بافتتاحية لاحقة، بعنوان ((كلمتنا )).
وميزة((كلمتنا)) هي ما يتصدر النص من عبارة قصيرة مكثفة، بمثابة لافتة يصوغها السيد فضل الله ، مثل(( العمل اولا)) ((التجرية ابدا)) وغير ذلك، وتتمحور المادة المكتوبة حول هذة اللافتة الشعار، ولا تنشغل باستلهام الماضي، أوالحديث عن أمجاد الأمة، وتفوق صحابة النبي(ص) وعصرهم على ما سواه من عصور لاحقة، كانت حركة التاريخ فيها تراجعية، تنحط دائما و تتقهقر حسبما صوره لنا سيد قطب فيما اسماه ((جيل قراني فريد)) في كتابه ((معالم في الطريق))الذي اغرقني في سلسلة من الأحلام و اليوتوبيات، حينما طالعته قبل ذلك بعامين. كان هاجس كتابات فضل الله هو الراهن، وما يحفل به الاجتماع الاسلامي من تناقضات وملابسات ومشكلات ، فيسعى الى اكتشافها وتحليلها ونقدها. لم يقع اسير تمجيد السلف، والثناء على أخطاء التاريخ، والانشغال بتحويل الهزائم الى انتصارات، و تقديس كل ما يتضمنه التراث، وانما تسلح بمنظور نقدي حجاجي، لا يكف عن مقاربة الموروث والواقع برؤية تحليلية نقدية ، والوقوف على ما يكتنفه من ثغرات بكل جرأة. لا يكف السيد فضل الله في محاضراته و خطبه و كتاباته عن النقد و المراجعة، وقد تعلمت منه مثلما تعلم غيري من شباب الحركة الاسلامية وقتئذ، التفكير النقدي، والمغامرة في اثارة الاستفهامات ، فقد كان مسكونا بالتساؤل، وظل يشدد على ضرورة طرح الأسئلة، ويحث على ان السوال مفتاح المعرفة، وما من سؤال الا وله اجوبة . لقد خرجت من السجن المعرفي الأول بمطالعتي لآثاره. منذ ان التقية للمرة الأولى قبل ثلاثين عاما تقريبا ، كان يحثني على المضي بتحديث التفكير الديني، وطالما حدثني عن تجاربه الخاصة في هذا المضمار، وما واجهه من رفض واستنكار وتقريع وتشهير وممانعة. وحتى في زيارتي الاخيرة له قبل شهرين، لم يمنعه تدهور حالته الصحية ، ووهن قواه البدنية، من الحديث عن خطواته الاولى في الحوزة العلمية في النجف الاشرف قبل ستين عاما، ومسعاه للاصلاح والتغيير بمعية السيد الشهيد مهدي الحكيم ومجموعة من زملائه يومئذ. كان يتطلع الى النجف ، ويعلق عليها الكثير من الآمال في نهضة الامة، ويحث على التواصل مع المصلحين في الحوزة العلمية فيها واستلهام رؤاهم ومواقفهم، كالسيد محسن الامين، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد محمد تقي الحكيم ، والسيد الشهيد محمد باقر الصدر. فيما استمعت منه وقرأت له وجدت النزعة الانسانية تسود تفكيره الديني، فهو يدعو الى ما يصطلح عليه ب(( دولة الانسان))، ويؤشر على الابعاد الانسانية في الدين، ويمكننا العثور على فتاوى متعددة في مدونته الفقهية ، ربما خالف بها المشهور ، تحيل الى المنحى الانساني في تفكيره الفقهي، كما في فتواه المخالفة للمشهور بـ((طهارة مطلق الانسان)). وقبل عشرة اعوام ناقشته في فتوى (( سن بلوغ الفتيات بعمر تسع سنوات )) واشرت الى الابعاد البيولوجية الطبيعية والسيكولوجية للبلوغ، وكذلك الابعاد الاجتماعية، وما يرتبط بذلك من وجود بعض الفتاوى في التراث الفقهي تنص على ان سن بلوغ الفتاة هو 13 أو 14 أو 15 سنة، كما اشار لذلك الشيخ الطوسي في المبسوط وغيره من الفقهاء. وقلت له: سيدنا ان تكليف الفتاة بعمر تسع سنوات قد يفضي الى التكليف بما لايطاق، خاصة في القرى والارياف مع عمل الفتيات بالفلاحة تحت الشمس في القيظ ، ونهار الصوم يتجاوز 16 ساعة. فأجاب: أعدك بأني سأبحث هذه المسألة بدقة وعمق، واحاول ان اخلص الى موقف فقهي مستدل فيها. وعندما زرته بعد عام من ذلك التاريخ اهداني كتابه في(( بلوغ الفتيات)) الذي قرر فيه المدارك الفقهية والادلة لفتواه البديلة بسن البلوغ الشرعي المتناسب مع سن البلوغ الطبيعي البيولوجي والسيكولوجي للفتاة. وهكذا اهتم بآراء الخبراء في الفلك ، واعتمد على خبرتهم في تحديد بداية الشهور القمرية والصوم والعيدين الفطر والاضحى.اتسم تفكير السيد محمد حسين فضل الله بمواقف نقدية صريحة، واستيحاء للنزعة الانسانية، وتوظيف شيء من المعطيات العلمية ، في تفسيره وفقهه ومواقفه وآرائه وعلاقاته الاجتماعية.
الرؤية النقدية الإنسانية فـي تفكيرالسيد محمد حسين فضل الله
نشر في: 4 يوليو, 2010: 10:13 م