عباس بيضوناللقاء الأول كان في غرناطة. أما المناسبة فمؤتمر ثقافي عربي حضره عشرات من مفكرين من أنظمة متعددة، أدباء ومفكرين ومؤرخين ونقاداً. كان عراباه أدونيس وعبد الله حمودي، وأحسبه من أجدى المؤتمرات التي حضرت. بل كان من المؤتمرات النادرة التي تؤشر لبدايات جديدة للخطاب الثقافي العربي. افتتح المؤتمر،
لأمر لم يتضح في المؤتمر، أمير عاص في الأسرة الملكية المغربية. كان خطاباً متينا وضع فيه الأمير المتمرد تحديه كله. وقف نصر حامد أبو زيد بين الجميع وقال انه لا يعترض على كلمة الأمير لكنه يتساءل عن مكانها من المؤتمر. انها في صدره ما يعني أنها كلمة المؤتمر، أو انه في ظلها وهو لا يعلم (أبو زيد) بأن المؤتمر كلف الأمير بذلك او استشير فيه فقد دمغ، وهو لم يكد يبدأ، بهذا العنوان. قال انه لا يعترض على الكلمة بل على الموقف. ما جرى تهريب لإرادة المؤتمر. المسألة ليست مقالة الأمير لكنها الديموقراطية. استبدال إرادة الناس والنيابة عنهم بدون علم منهم. كانت هذه المرة الأولى التي عرفت فيها نصر حامد أبو زيد.rnلا أريد ان أتكلم على فكر نصر حامد أبو زيد. ذهب الرجل إلى سبيله وهو يواصل أفكارا يعرف أنها في بداياتها، وانها تحتاج إلى رفد ثقافي لغوي أركيولوجي علمي لا يتوفر الا قليله. بل تحتاج قبل كل شيء إلى ان تتمأسس وإلى أن تغدو مشروعا. كان نصر حامد أبو زيد يضع المسائل في نطاقها: التاريخ كتاريخ واللغة كلغة والدين كنشاط انساني وكتاريخ ولغة، بينما هذه جميعها في ثقافتنا لا تزال في زمان شبه اسطوري. تنبع من حكاية واحدة نظن أن أصلنا فيها، وأننا حين نبتعد عنها نفقد انفسنا. كان نصر حامد ابو زيد يقول ان علىنا أن نتعامل مع تاريخ الدين كتاريخ ولغة النص الديني كلغة. هذا أمر يبدو لأول وهلة بسيطاً لكن دون ممارسته جبل من العوائق والممانعات. تاريخ بني تحت سلطان مخيلة منظمة ونصوص جعلت لها قراءات مضبوطة نهائية. كانت دون ممارسته ايضا نواقص علمية وفكرية هائلة. طرح نصر حامد أبو زيد وجهة وقف حياته عليها. اقول وقف حياته عليها لأن هذه هي ميزته. كان يعرف ان مشروعه لا يقوم بواحد ولا اثنين وانه لن يكون شيئا الا اذا صار في عهدة ثقافة كاملة، إلا اذا غدا على جدول الثقافة وتحول إلى مشروعها الخاص، الا إذا تحول إلى مؤسسة وإلى وجهة تاريخية. علم نصر حامد أبو زيد فلم يكتف بأن يقول كلمته ولم يعتبر ان في هذا الكفاية. أراد نصر حامد أبو زيد ان يزرع مشروعه في جسم الثقافة العربية، ان يغدو عضويا فيها. كان يصير عمل أجيالها، هذا طموح شغله بمقدار ما يشغله بناء أفكاره وتطويرها، لذا كان نصر حامد أبو زيد مفكرا بمقدار ما هو داعية ومحرض. كان يفكر لكن يعلم أفكاره وينشرها. كان بكلمة يناضل من أجلها. لا أشك في ان نصر حامد أبو زيد كان يعتبر ان مشروعه الفكري لازم لا للثقافة العربية فحسب، لكن للمجتمع العربي كله. لطالما أفصح لي عن ذلك في أحاديثنا. رأى دائما ان قراءة الدين كتاريخ ولغة ونشاط بشرية هي المقدمة التي لا غنى عنها لتحرير الفكر، بل لبدايته. وكان يرى ان تحرير الفكر أمر لا يعود على الفكر وحده، لكن يعود على السياسة والاقتصاد والحياة بكاملها. كان يرى بسهولة الرابط بين العقدة الايديولوجية والاستبداد اليومي. بين العقل الأسطوري والأنظمة الوراثية. بين عبودية الكفر والبؤس السياسي والاقتصادي. كانت لنصر حامد أبو زيد، بالتأكيد، صلة بما بدأه طه حسين في «الشعر الجاهلي»، غير ان طه حسين ترك مقدماته ومضى، لم يغير في اسم الكتاب وحده بل في مسيرته كلها. اعتذر عن كتابه الملعون هذا بكتب لاحقة أعادت الأسطورة الى سدة التاريخ، ولم يكن هذا تساهلا فحسب، كان خيانة بكل معنى كلمة. هل كان خيانة على المستوى الغاليلي (لكنها تدور) أم كان الأمر أفظع. أحسب أن طه حسين طوى نقده الراديكالي واستعاض عنه بالاصلاح الاجتماعي. بقي عقلاً حراً بدون شك لكنه باع قضيته. مع ذلك وجد طه حسين، رغم المحنة التي تعرض لها، دعما حقيقياً لدى النخب المصرية يومذاك، بل دعما من الطبقة العلىا. ومهما كان من أمر العاصفة التي واجهها فإن حكم القضاء المصري بتبرئته كان انتصارا بكل المعاني. انتصاراً، لو شاء لبنى عليه، ولو أراد لجعل منه دافعاً. غير أن الرجل كان تعب من المسألة كلها، ولم يكن له جَلد المناضل، فرمى المسألة خلفه ومضى. بعد عقود متطاولة يتعرض نصر حامد ابو زيد لمحنة أكبر، ويلقى ما يلقى وحيداً، بدون دعم من بورجوازية متعلمة كذلك الذي تلقاه طه حسين. فقد حلت محلها بورجوازية دولة جشعة وغبيّه بدون دعم من نخبة مثقفة مستضعفة مستأجرة لدى الدولة التي احتكرت الثقافة ومؤسساتها. بعد عقود متطاولة لا نشك في ان الأمر بات أسوأ بكل المعاني. لم يقض حكم القضاء بإحراق نصر حامد أبو زيد او صلبه لكنه فعل ما يوازي برمزيته ذلك تماماً. اعتبر ان الدين كما تسنه المؤسسة هو مصدر الحقوق الانسانية كلها بل مصدر الهوية البشرية نفسها. على هذا جرد القضاء أبو زيد من حق ان يملك وأن يلد وأن يتزوج وأن يرث ويورث وأن وأن. فليس في تطليقه من زوجته سوى نبذة وطرده من المدينة، هكذا رُمي أبو زيد منبوذا طريداً إلى هولندا. رفض أبو زيد ان يرضخ للقاضي حين طلب منه قراءة الشهادتين لا لشيء إل
الهجــرة الثانيـة لنـصر حامـد أبــو زيــد
نشر في: 9 يوليو, 2010: 06:56 م