نصر حامد ابو زيد خطاب التحريم لا يقتصر على الخطاب الديني، وإن كان هذا الخطاب الديني هو الأبرز حضورا والأعلى صوتا بحكم مركزية “الدين” في أفق الحياة العامة في مجتمعاتنا. هناك خطاب التحريم السياسي، وخطاب التحريم الاجتماعي، وخطاب التحريم الثقافي، هذا فضلا عن خطاب التحريم الأكاديمي.
الخطاب الديني جزء من الخطاب الثقافي العام في أي مجتمع، يزدهر الخطاب الديني بازدهار الخطاب العام، ويكون منفتحا وتحرريا وإنسانيا بقدر ما يكون الخطاب الثقافي العام كذلك. وحين يختنق الخطاب العام ويسوده التعصب وتحكمه معايير اللاعقلانية والتمترس خلف هوية تعادي الآخر وتكره الاختلاف يصاب الخطاب الديني بذات الداء: التعصب، واللاعقلانية وتحكم معاييرالهوية الجامدة، وكراهية الاختلاف. في هذا القول نوع من التعميم بالفعل، إذ لا يفتقد الإنسان بعض البؤر المضيئة في كل الخطابات رغم سيادة خطاب الاختناق المشار اليه وهيمنته على المجال العام. لكن هذه البؤر المضيئة تمثل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها. الخطاب العربي بشكل عام، والمصري بشكل خاص، يعيش هذه الأزمة منذ فترة ليست بالقليلة. ومهمتنا يجب أن تركز على تحليل هذا الخطاب تحليلا نقديا بهدف كشف جذوره وتعريتها مستعينين بكل بؤر الضوء المتاحة بالتفاعل معها من أجل تقويتها. نفهم أن يصاب الخطاب السياسي بالفزع من المظاهرات، ومن تعبير الناس بطريقة سلمية عن متاعبهم ومعاناتهم بسبب الظروف المعيشية القاسية التي وصلت بالناس إلى حد معاناة الجوع لا مجرد الفقر. ونفهم تبريرات الخطاب السياسي لعجزه عن ضمان الحد الأدني لتوفير الحاجات الأساسية للمواطنين بأسعار في متناول دخولهم بالاستناد إلى ارتفاع الأسعار في العالم كله. هذا كله مفهوم وإن كان غير مقبول لأنه غير مقنع، لكن من غير المفهوم ولا المتوقع أن يصدر بعض ممثلي الخطاب الديني فتوى بتحريم المظاهرات تحريما دينيا. هنا يتحول التجريم السياسي إلى خطيئة دينية. على أي نص ديني يستند خطاب التحريم هذا؟ والأدهى من ذلك أن يفتي البعض أن التدخل في تحديد الأسعار غير جائز دينيا، لأن الرسول عليه السلام لم يتدخل أبدا في تحديد الأسعار في السوق!!!! وهنا لا بد من وضع آلاف من علامات التعجب لهذه القفزة من القرن السابع إلى القرن الواحد والعشرين. ويصبح السؤال مشروعا: مثل هذا الخطاب لمن يتوجه، من يحمي ومن يخنق؟ أهو يحمي أهل الحل والعقد من غضب الناس، أم يحمي مصالح ممثليه مع أهل الحل والعقد أولئك. وأعتذر عن استخدام هذه المصطلحات البالية مثل “أهل الحل والعقد” لكن تلك هي اللغة التي تناسب مقام من يتصدى للفتوى هذه الأيام. الفن حرية: الفزع من الحرية:السؤال الآن: لماذا يسبب الفن فزعا لخطاب التحريم، فيحاول محاصرته ومصادرته؟ الفن هو المجال الأخصب لممارسة الحرية، وحين تصبح المجتمعات فزعة من الحرية، يكون الفن ضحية هذا الفزع. الفن هو ممارسة أقصى مستويات الحرية، يمارس الإنسان في الفن أقصى درجات التحرر, يتحرر من قيود الجسد في الرقص، من قيود الرتابة فيالموسيقى، من قيود المادة في الفن التشكيلي، ومن قيود اللغة التداولية في الشعر والأدب. في الفن تتحقق إنسانية الإنسان في علاقته بالكون، حيث يستعيد الفن الإنسان من غربته التي فرضتها الثقافة بمفاهيمها وأعرافها ومؤسساتها وقيمها، فيالفن وحده يتحرر الإنسان ليعيد بناء عالمه ويطور ثقافته. من أجل هذه الحرية المبدعة التي لا توجد إلا في الفن يكره المتشددون الفن على اختلاف طوائفهم سياسيا واجتماعياً وأخلاقيا ويمارسون ضد الفن والفنانين كل ضروب الاضطهاد، وفي أحسن الأحوال يضعون في طريقه الأشواك والمحاذير.كان النحاة واللغويون يتتبعون دائما الشعراء فيما اعتبروه أخطاء، ذلك أن النحاة واللغويين يتحولون أحيانا إلى حراس للقواعد التي استنبطوها من استقرائهم للغة الكلام والتواصل، اللغة العادية. في لغة الشعر كسر لقواعد هذه اللغة العادية من أجل تجاوز إطارها المعرفي إلى آفاق جمالية ومعرفية تتأبى قدرة تلك اللغة العادية على حملها. لا تنكسر قواعد اللغة فقط على مستوى النحو وقواعده المعيارية، بل يخترق الشعر إمكانياتها الدلالية والتعبيرية بتوليد معان لا يمكن أن تتحقق إلا باختراق الدلالة المعيارية عن طريق الاستعارة والكناية والتشبيه، هذا فضلا عن البناء السردي في القصيدة. من القصص الدالة أن لغويا اسمه “عبد الله بن اسحاق الحضرمي” بلغ من كثرة تتبعه للشعراء وذمهم أن هجاه أحدهم بقوله:ولو أن “عبد الله” مولى هجوته ولكن “عبد الله” مولى المواليافقال له “أخطات: علام نصبت “مواليا”؟ فكان رد الشاعر “على ما يسوؤك وينوءك”. ذلك أن النحو المعياري يرى أن الكلمة “عبد الله” مضاف اليه وأن حقها الجر؛ فيجب أن تكون الموالٍ بدل “المواليا”. ما لا يدركه النحوي، وربما لا يهتم به، أن هذا يكسر الوزن ويحطم الإيقاع، أي ينقل الكلام من مستوى الشعر إلى مستوى اللغة العادية. وهذا ما جعل الناقد العربي الكلاسيكي يقول: “الشعراء أمراء الكلام&rdq
الفن وخطاب التحريم
نشر في: 9 يوليو, 2010: 06:59 م