TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > فـي معرضه الجديد.. تحولات رياض نعمة

فـي معرضه الجديد.. تحولات رياض نعمة

نشر في: 10 يوليو, 2010: 05:14 م

سهيل سامي نادرفي مكان عملي ببغداد (المدى) كانت ثمة لوحة عريضة بنحو مترين وارتفاع لا يتجاوز النصف متر معلقة فوق رؤوس جماعة التصميم وصفّ الحروف المنهمكين في العمل. كانت تلك لوحة لرياض نعمة ، وقد سألني احد العاملين عما تمثل حقا، فأجبت انها "المضطجعة".
 انه اقتراح اللحظة بالطبع، بيد إنني لم أكن على خطأ كبير، فقد كان ثمة شكل غامض قد يمثل شخصا يستلقي على هذه المساحة ذات القياس الغريب. من دون ان أبدو متهكّما اعتقدت ان الفنان لم يخطط للقياس بل وجده مصادفة ، ووجد من ثم ، تلقائيا ، شاخصا عليه. في بيته بدمشق تسنى لي أن أتعرف على الطريقة لتي يجد فيها رياض نعمة أشكاله، فهي تنبثق من مصادفات وتعرجات ومناورات عديدة، لكن ما من تحضيرات مسبقة ، ما من تصميمات حاضرة او فورية. ما يظهر الآن ليس هو نفسه ما كان قد ظهر قبل ساعة. تتغير اللوحة مرات، وأحياناً تهمل لأيام ، وتنتهي بفورة تتغير فيها بنيتها العامة او تفاصيلها وألوانها.   سواء كانت هذه حالة فنية أصيلة او حالة نفسية ، او تشابكت فيها الحالتان ، فقد كان رياض نعمة واعياً لها، ولعله دمجها في سياق زمنه الإنتاجي وتوقعاته منه .  كان يستغرب من قدرة بعض الفنانين على "حفظ" خطوات التحضير لعمل فني  وتنفيذه ، أو بقاء صورته حاضرا في الذهن دون تغيير.  يقول لي : "الأمر مخيف ، ففي كل مرة يبدو إنني نسيت ، وكأنني دائما ابدأ من جديد . ازاء هذا أكاد أحدس النهاية، فهناك من يهمس في أذني قائلا : لا تخرب اللوحة أكثر مما فعلت .. غادر المكان!".    كانت تجريديته تستوعب علامات من الواقع ، وأشكالاً هندسية مجردة ، وأشكالاً أخرى توحي بأجساد عضوية. كما ان ميله الى إمساك كتل كبيرة في تحديد واضح ، ليعيد تصغيرها او ينتقي مقاطع منها ، كضرب من التحليل الفني ، كان وسيلته إلى فتح أعماله. بيد أن هذه الكتل، على تجريديتها، حافظت على الحالة الاحتمالية في التنفيذ ، فها هو رأس كبير يظهر بعد برهة رأسا مع أشياء غير محددة. وما يبدو انه أشبه بمنظر أفريقي بسبب طبيعة الألوان سيظهر سوراً من جذوع الأشجار . بيد انه في اللحظة التي جازف بتخطي التجريدية رسم فتاة فقيرة حزينة تظهر من بين الجذوع . لعله فاجأ نفسه بكونه بات اقل تجريدية بكثير بحيث راح أولاد وبنات يخرجون تباعا من تجربة الحذف والإضافة وعدم اليقين هذه. هناك صعوبة في أن يولي الفنان تجربته السابقة ظهره . في حالة رياض لا يتعلق الأمر بالتحول الأسلوبي وحده، بل هو هذا التحول بالتضافر مع تحول المفهوم الجمالي العام الذي يعتمده.  إن نسق التوقعات في العملية الإنتاجية يتغير على نحو سيحتاج الفنان معه إلى إنتاج عاطفة جديدة لكي يواصل العمل ، ولكي يقلل من كلف الانتظار واستدعاء المزاج. وسيحتاج إلى هذه العاطفة حقا عندما سيرسم أولادا تسلقوا جدارا ، او ولدا يحمل حقيبته المدرسية على ظهره ، أو عجلة هوائية تنتظر من يقفز على ظهرها. لعله لم يحسم اختياراته تماما ، إذ جاء تحوله إلى التشخيصية التعبيرية كحالة عاطفية ، ورسم ما رسم تحت إلحاح تذكارات من طفولته ، أو من اعتياده قطع مسافات طويلة على قدميه ومشاهداته للصغار ، فقرهم ، شقاواتهم ، مظهرهم الجاد والأخرق عند ذهابهم الى المدرسة صباحا. على عكس كتله التجريدية الساكنة ذات اللون الواحد تقريبا، نفذ تلك المشاهد كوضعيات متحركة بعض الشيء بالاعتماد على الضربات السريعة، وبتلوينها على نحو عاطفي ومنفعل. لا أعدم حصول هذا التحول الأسلوبي والفني وفي الاختيارات الإنسانية بتأثير ما كان يجري في بلده . والحال كانت جميع أحاديثنا الممتعة انا وهو ترتد الى شوارع كنا قد مشيناها قبل ان تتحول الى جحيم . كانت السياسة هناك قد تحولت الى تجريد ، وهو المعني بالحياة سيدافع عنها بتصوير اولئك الشبان الصغار الضائعين . الرسم لا ينقذهم لكنه يشهد انه رآهم هناك في نفس الشوارع التي مشيناها مرة  عندما كانت جميلة وهادئة .إن التجربة اللاحقة لرياض نعمة – حسب ما اخبرني - هي تصوير وجوه بحجم كبير ، وجوه عراقية ، او وجوه الإنسان الشاهد. لست متأكدا من حجم هذه الوجوه الا انه أشار إلى ان مقاييسها كبيرة إلى حد ان تعرض في الشوارع والهواء الطلق.  إن التعبير ينتقل الى مركز مشع : عينان رأتا الهول . عينان محبتان تحتضنان مشاهد عبورنا الخطر في شوارع مفخخة ، عينان متفكرتان بهذا التاريخ الحزين الذي لا نعرف الى اين سيصل بنا ، والى ماذا سيفضي! لعلي أتخيل هذه التجربة اقترانا بالوجوه التي قدمها في المعرض الذي اقامه في عمان قبل أشهر والتي تميزت بالالفة، والقوة، والصراحة ، والفصاحة التعبيرية. لكن الإثارة كانت في التقنية التي تتحول إلى ضرب من أسلوب صارخ يعتمد على تحريك خطوط ملونة هائلة باتجاهات عدة ، ثم تشبه هذه الخطوط بمادة طباشيرية على الرغم من انها زيتية . ومن الواضح ان هذا التدبير يحافظ على تساند وظيفي جمالي ما بين التعبير الأصلي للوجه والتعبير الأسلوبي والتنفيذي له ، ما بين التخطيط الذي يستند على حركية الخطوط ، وبين حجم الوجه وتعبيريته الإنسانية المألوفة

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram