الدكتور مهدي صالح دوّايكثيرا" ما شدني الحماس لرؤية البصرة ، أو كما نعتت بفينيسيا الشرق، إلى أن تحققت رغبتي بزيارة البندقية، أو كما يطلق عليها بفينيسيا ، ذلك الأرخبيل الأدرياتيكي ذو المئة وعشرون جزيرة ، وإنها لمفارقة عجيبة أن يتحقق ماكان خيالا" ،
وأتخيل ماكان حقيقة ، ولعل في هذا الأمر ماجعلني أكثر حماسا" في تخيلاتي نحو البصرة بعدما شاهدت التي يشبّهونها بها . rnفبين أن تتخيل وترى مسافة تتحكم بطولها ثقافة المرء، ومضمون المكان ، فكثيرا" مايشدّ الرحال وتقطع آلاف الأميال لرؤية أثر حضاري ساكن ماديا" ، لا تتعدى مساحته الأمتار ، إلا انه يختصر الكثير من ثنائية الزمان والمكان التي تلف حياتنا ، ففينيسيا ، تلك المدينة المائية مازالت في ضيافة حواضرنا لتحكي لنا يوميا" طريقة بنائها ، ونمط حياتها ، ووسائط نقلها الخاصة ، وتفاصيل أخرى عديدة ، وعلى أرصفتها الخشبية تنهمر النظرات نحو لوحات طبيعية غارقة بمياه البحر ، وتحمل مراكبها يوميا ثقافات متنوعة بدياناتها وأزيائها ولغاتها ، فالمكان لاينبغي أن يكون عاديا" مادامت تفاصيله تقودك نحو مشاهدة التاريخ ، الذي تعودنا أن نتحسسه في بطون الكتب وأفواه الرواة ، فهل من ثوابت أقدارنا أن نعيش بأمجاد مواضينا ، ويتذكرنا الآخرون بأسماء مدننا وآثارنا المسروقة في متاحفهم ؟ يقولون في البصرة ملايين النخيل توشوش بسعفها على مئات الأنهار العذبة، أصغرها بويب العظيم، وتستريح إلى شطها كل الحضارات الأولى ، وتحمل طياتها الأقوات الوفيرة، وفي رفاتها آلاف من قصص المآثر والأمجاد، وفمها المفتوح يديم للعراق بقائه ، ولدت قبل بغداد وبكت فرحا" بالفتوحات ، وتحملت أحزان العراق . يقولون إنها كفينيسيا بسواقيها وجنادلها ، وكانت تنتهي إليها الرحلات طلبا" لعلمها واشراقة شمسها ، وتنطلق منها رحلات السندباد السبعة نحو بحار العالم ليتسلى بخيالاتها الكبار والصغار.إنها عفوية مصنوعة بذكاء عال لايسيء لتاريخ فينيسيا الايطالية ، فتآكل الجدران وتصدعاتها جزء من التراث ، والأعمدة الخشبية الدالة قد غرست في الماء ببدائية جميلة ’ وعشرات القناطر الخشبية توصلك بالماضي بسهولة ، في حين يغادر بك جندول بمجدافيه الخشبيين إلى حياة الارستقراطية الكلاسيكية ، فلا اثر لعوادم المحركات وزحمة النقل المعاصر ، الجميع يتعايشون بثقافاتهم مع المكان ، مدفوعون بما تمليه خيالاتهم من سلوكيات وحركات وأصوات تمنح المكان مشهدا" فسيفسائيا" يعزز من مكانة هذه المدينة الطافية ، انه استثمار بمذاق خاص للمكان ، فلا أدخنة مصانع تلوث الشهيق ، ولا أتربة طرقات تعيق الزفير . سمعت أن انهر البصرة قللها الجفاف ، وعذوبة شطها تغير مذاقها ، وملايين نخيلها قد انحسرت ، وإطلالات شناشيلها قد تصدعت ، إلا أني مازلت أعايشها بذاكرة الخيال الخصب ، فالتمس لذلك أعذارا" وأعذارا ، فالجغرافية عصية على من يغيرها ، ولابد من إحيائها بما نملك من مقومات جمة ، فكم ( بصرة )عندنا لنضحي بإحداها ، و أني لست أفضل الحريصين عليها ، بخاصة واني مازلت أتكلم بخيالي المتواضع دون أن أراها .كنت ضيفا على فينيسيا ، ولابد أن تنتهي الأيام الثلاثة لإقامتي ، وهنالك الملايين مثلي أنفقوا فيها ، وتكلموا عنها ، وأرّخوا لها عبر التاريخ ، فأي عطاء تزخر به هذه المدينة على أهلها ؟ وأي كرم يغدق به أهلها عليها ؟ انها حميمية العلاقة مع ما مضى بكل مايحمل من تضاريس النجاح والفشل، فهي جزء من منظومة الحياة مهما طال بها الزمن , وأصبح عتقها اكثر حضورا" وجذبا" من المدن المعاصرة ، فليس من المعقول أن تكون الأمكنة ضحية لإخفاقات البشر ، لان لتلك الأمكنة ذاكرة ورمزية يزداد بريقها بمرور الأيام والحقب , فضلا عن وفائها لمن يديمها , فهي حاضنة التاريخ الذي نفنى ولاتفنى سجلاته .من الذي يترك بصمته التاريخية ليعيد تلك الألقاب والكنى لمدينة البصرة ؟ من يعيد لها العالمية التي تليق بها ؟ فكلام الخيال قد يكون أكثر إيقاعا" من دعوات الواقع ، فإذا لم نتحسس وجدانيا" أهمية هذه المدينة لايمكننا أن نعيدها كما تريد , نريدها تستوعب الخيالات بشكلها ومضمونها ، فخصوصيتها كفيلة بان تعود بالعراق إلى بر الأمان .
فينيسيــا الشـــرق: كــلام الخيــال
نشر في: 18 يوليو, 2010: 09:09 م