باسم عبد الحميد حمودييقف الناقد ,الدارس ،القارئ القديم للقصة العراقية ، أزاء الكثير من النصوص التي تقدمها الورقيات السردية ،جرائد ومجلات موقف المنزعج غير المتفائل لما وصل اليه حال السرد العراقي الذي ينشر بلا حساب ومن دون تعب يذكر ،
في وقت أمسك فيه زمارون وطبّالون حسبوا أنفسهم على الدرس والنقد موقف المشارك في الغفوة وضياع المقاييس وأحتساب من لايملك مع من يملك دون وجه حق سوى( وجهانيات) الميديا ومجموعة من العاملين فيها ،من مقدمي برامج ومحاورين ومعدين ومحررين،وبذلك اختلط الرديء بالجيد وضاعت ا لتجارب الحقيقية الجادة وسط ركام من المواد السيئة . بذلك يجد المرء نفسه حين يعثر على جوهر أو ياقوت وسط كتل من الفحم في فرح أكتشاف ودهشة ,وسرور بأن الخير موجود ,ومن هذا الخير الذي فرحنا به مجموع قصص للأستاذ محمد مكي صدر حديثا تحت عنوان (حجر الليل) ،حيث اللغة الصافية الي لا ضعف فيها بل الاشراق السخي المفعم بالدقة في اختيار المفردة والسير بالنص موضع السرد في مجرى الامتاع وسحره أضافة الى تحقيق الغاية الإبداعية من النص بشكل ناجح ومؤثّر . لكي نؤكد ذلك لابد من مقاربة واحد من نصوص (حجر الليل) وهو هنا قصته الاولى (الظل) ،حيث تنبني التجربة على مهارة الاداء والتعمية في تقليب الصفحات (الأحداث هنا أو التجارب )،فالقصة هنا لا تعطيك نفسها بسهولة ،تبدأ بحدث وتنتقل بانسيابية الى حدث آ خردون خدش للتجربة بل إضافة جمالية و فكرية لها ،تجعلها أغنى وأكثر إمتاعا وإعمالاً للفكر. تبدا التجربة بإعلان وفاة أب الراوي وتصوير حالة ذلك المحتضر الذي يتمنى الموت – وقد بلغه – على الحياة ،ويقوم القسم الأول من التجربة على نقل الجثمان الى المدفن ومصافحة الموت في ذلك الفضاء الذي لا ينتمي الى زمن محدد ومعايشة ذوي الأقنعة الشمعية في المقبرة مع مقاربة ماساوية لفقدان جزء مهم من عالم الراوي وهو الاب الدي توارى في كفن مجلوب من مكة طلبا للطمأنينة والرحمة،حيث تتداخل الصورة المشهدية مع ظهور شخصية ( الحاوي) الغريبة الذي يرافقه الراوي في مغامراته المدهشة في السوق وفي القطار وفي نجود الصحراء القريبة من البحر (أهو بحر النجف القديم ؟ّ) حيث يقود الحاوي راويتنا مع مجموعة كبيرة من النساء والاطفال والرجال الى ظهر سفينة راسية يقف على برج يحيط بالصاري عبد اسود مسربل بالبياض يقود السفينة لمجهول قادم، أكثر قسوة ورعبا من الحياة الغار بة ومن الفكر التشاؤمي للراوي .يقود العبد السفينة الى فسحة في البحر تتقافز فيها الحيتان حيث يرمي الحاوي –بواسطة العبد – تلك الكتلة من البشر الى فكوك الحيتان ،يزداد الأمر غرابة أن الجماعة البشرية اندفعت ضاحكة فرحة إلى الماء لتقطعهاّ فكوك الحيتان الجائعة وتحصل القصة على مشهد مشحون بالرعب ,والتفكير : لم هذا الفرح بالموت ؟ يقول الحاوي الذي (أخرج) هذه المقتلة البشعة للراوي : ))أنها مدينة الموتى تشع بقناديل بيوتها ))، ثم يبدأ مشهد القتل في جغرافيا مكان بين مدينة الموتى وفانوس عشتار . قبل الموات اطلق الزنجي ثلاث نفخات من بوقه تماما كما يفعل اسرافيل يوم المحشر ،في عملية تماه مع أخبار اليوم الموعود لكن الانسان هنا لايحاكم بل يقتل وهو مأخوذ بسحر يجعله يستسلم لهذا الغدر بانسانيته . يسقط الراوي مغميا عليه بعد ان شهد المجزرة واقترب منه صحن طعام كله لحوم ، كان البعد الفسيولوجي وسيلة احتجاجه على الجريمة ،وعندما أفاق قرر أن يتجاوز ازمته بمصانعة القاتلان ،الحاوي والعبد وأن يحاول انقاذ ذاته من مقتل (ربما) قادم . ويعيش الراوي سويعات قريبة من الموت تزدحم بالإرعاب وهو يرى (مثلا) جسم رجل يحمل جمجمة عارية يجدف في زورق في ذلك البحر وكأنه خارون في بحر أستكس (أرأيت التماهي واستنزال القراءات السابقة ؟) . وصلت السفينة الى ساحل ما وكان هناك بشر وكلاب وحياة اكثر اشراقا من فصول الرحلة السابقة ,فجأة يقتل الزنجي فتاة اقتربت من الراوي ويقاتل الراوي الزنجي والحاوي معا لكنه لا يستطيع وهنا يعيد الحاوي نقودا للراوي سبق ان سرقها منه ويهديه الى سلوك طريق ينجيه من متاهته هذه وأحلامه إلى أرض الواقع . أكان حلما كل هذا بدأ من المقبرة وانتهى بالطريق الحلزوني الذي سلكه الراوي لينجو من قبضتي الحاوي والعبد ؟ أم هو استنهاض لأحلام سادت مسبقا ؟ أم هو سعي لمحاكاة عالم عشنا بعض تفاصيله وأعطانا التاريخ واليوتوبيا بعض تفاصيله ؟ يقيناً أن قصة محمد مكي هذه تجمع كل هذه ،لكن المهم أنه قدمها لنا بلغة مشرقة شديدة التأثير وألافصاح ،إذ يتلاقح الواقع بالمحمول العجائبي الذي عايشته ثقافة محمد مكي وأفصحت عنه قدرته المهمة على القص
مراجعات ..محمد مكي فـي (حجر الليل).. تلاقح الواقع بالمحمول العجائبي
نشر في: 20 يوليو, 2010: 06:25 م