TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: هل تنفي الحداثة التناغم مع الطبيعة؟

تلويحة المدى: هل تنفي الحداثة التناغم مع الطبيعة؟

نشر في: 23 يوليو, 2010: 07:01 م

شاكر لعيبييشكّ شطر جوهريّ من الفكر الألمانيّ بإحدى مسلمات الفكر الكلاسيكيّ الأوربي: بداهَة التناغُم مع الطبيعة، وهذا الشك قد يكون مرجعاً لحداثةٍ غير مُتصالِحة مع العالم، وللتأويلات الخارجة منها في كل حقل، بما في ذلك الحقل المعماري. يعزو البعض ظهور المدرسة التعبيرية الألمانية إلى الدور الحاسم لما يُسمَّى بالخصيصة الاستعلائية  للتعبير القوطي.
يرى مؤرخ الفن هربرت ريد أن الفيلسوف ولهيلم وورنغير الذي أثرَّت كتبه على حقبة كاملة وعدد كبير من الفنانين الألمان، قد عبَّر بشكل منهجي عن التوتر النفسي للفن "الشمالي" من جهة والفن الكلاسيكي والشرقي من جهة أخرى. زوَّدتْ نظريات هذا الفيلسوف عدداً مهماً من الرسامين بالثقة النظرية لإنجاز أعمال مستندة إلى أفكاره حول الطبيعة الراسخة للثقافة الأوربية الشمالية التي يقترحها. أحد مبادئ هذه الثقافة رفض المسلمة الكلاسيكية التي تعتبر الطبيعة إطاراً مسالماً تتم فيه الجهود الإنسانية، والتقليل من أهمية اعتبار الفن تمثيلاً متناغماً للعالم ومع العالم. لم يكن هذا (التناغم) مقنعاً بشكل كاف بالنسبة لتقاليد الشمال الأوربي، فإننا هنا في وسط جغرافي ظل يعاني قروناً من (قسوة الطبيعة) الباردة، وظل منكمشاً على نفسه ومحاصراً في عقر داره ووحيدا بحثاً عن مكان دافئ. من هنا تنبثق، كما يقول ريد، نزعة التجريد القلق التي ميَّزت على الدوام تطور الفن في شمال أوربا، الأمر الذي يفسِّر لنا ظهور الأشكال والموتيفات التي شوَّهها الانفعال فسعت للتعبير عن القلق والرعب إزاء طبيعةٍ "معاديةٍ جوهرياً وليست إنسانية". القلق، حسب ريد، هو الذي يحكم الإنسان إزاء طبيعة قاهرة. يُمنع الارتياح والوضوح في الرؤية على هذا "الإنسان الشمالي" ليصير حله الوحيد الممكن أن يحمل في داخله قلقه وضياعه مصاباً بنوبات متواصلة من الدوار ثم الاسترخاء. يقول ريد إن الحاجة للنشاط لدى الإنسان الشمالي تمنع ترجمة الواقع إلى "معرفةٍ واضحة"، وأن غياب حل طبيعي يظل يتعمّق ويحتشد في الذات إلى مستوى استخدام مقلِق بل مرضيّ للمخيلة الرؤيوية. الواقع الذي لا يستطيع الإنسان القوطي تحويله، عبر المعرفة الجلية، إلى (طبيعي) كان مسحوقا بلعبة المخيلة المفرطة متحوّلا إلى تشويه (غير طبيعي). كل شيء يغدو غرائبياً وفنتازياً. خلف المظهر المرئيّ لشيء من الأشياء يقع طبعه الحق المزعج وصورته الكاريكاتورية: الواقعي يصير غرابة مثيرة للسخرية. كان لدى الرسّامين النرويجي أدوارد مونخ والبلجيكي جيمس أنسور والسويسري هودلير والهولندي فان كوخ الرغبة الدائبة بتمثيلٍ واقعيّ مشوَّهٍ ومتضِّخمٍ إلى درجة اللا واقع. التعبيرية هي "فن من دون علاقة بالهدوء الراقي للفن الكلاسيكي"، يخلص ريد إلى القول.الأمر المقنع في تحليل وورنغير، بعد كل هذا الوقت الطويل من صدور أعماله، رغم تفسير جغرافيّ لا نتفق عليه دائماً، هو ربطه بين تأصيل فلسفي "جرماني" ذي تاريخ عريق، مُتّسِم بالقلق والعبث واليأس وبين حركات جمالية ومدارس فنية حديثة ليست التعبيرية الألمانية إلا مثالها الرفيع، بينما لا نعدم وجود حركات أخرى لعلها أقلّ اهتماماً بهذا الفكر وإن نهلتْ منه: يأس الدادائية وعبث السوريالية وغيرهما، وكلها عالة على الفكر الألماني في نهاية المطاف.الفرح الداخلي وشيء من المرح كانا ينقصان ذاك الفكر وتلك الحركات. كانت متشحة بالسواد بشكل عام رغم طُرُفاتها المريرة، بل إنها كانت موسومة بالمنخوليا التي حاولت الوجودية السارترية تلطيفها عبر اقتراح فكرة الانغمار بالعيش في الوجود، إذا لم نقل بسعادة الوجود. تشاؤمية لا مثيل لها إلا قليلا في الثقافات الأخرى خارج نطاق الثقافات الأوربية المعاصرة، كاليابانية والصينية والأفريقية، وفي فنونها المعمارية كذلك، القديمة والحديثة. الغريب الملغَّز ليس غريباً ولا مهولاً في عمائرنا الشعبية والتاريخية، المبنية بالمواد الهشة، أو المتشكلة على شكل خلايا تتوالد عن بعضها في عمارة المدن القديمة في بغداد والقاهرة ودمشق وفاس. ثمة قدر من اللعب والمرح والانغمار في العالم على المستوى الوجودي، يقابلها على الصعيد المعماري استبعاد واضح للصرامة الرياضية في تلك العمارة، حتى أن المسافة بين (اللُعُبيّة) وإن كانت غير مقصودة و(الوظيفيّة) تبدو غير ذات شأن كأنهما كلاهما مقترنان فلا نعرف التفريق الحاسم بين الوظيفي والجمالي، خلافا للمدن الأوربية الحديثة. نود الاستشهاد بمقالة للدكتور شاكر عبد الحميد (عن البيوت الغريبة الموحشة) التي هي مزيج من أفكار غاستون باشلار بشأن خاصيّتيْ الإغلاق والاحتواء، الانفتاح والانطواء، والداخل والخارج، ثم من أفكار أنطوني فيدلير خاصة. يستعيد عبد الحميد التذكير بكتاب أنطوني فيدلر "الغريب المعماري" (1992)، وفيه يشير "إلى إن الأماكن الشبيهة بالمتاهات في المدن الحديثة قد تم تكوينها بأشكال غريبة فأصبحت مصادر للقلق والمخاوف والأوبئة والاغتراب، وأيضا الفضول أو حب الاستطلاع الذي لا ينتهي، حتي أن المحلل النفسي تيودور رايك كان يقول إن الرواية البوليسية تدين بوجودها لمثل هذه المخاوف والانفعالات التي تظهر في المدن "وتجعل القاتل الخفي غريبا". لكن، وفيما وراء هذه الأبعاد، ف

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الأنواء الجوية: ارتفاع في درجات الحرارة الاسبوع الحالي

الكويت تنفي تدهور الحالة الصحية لسلمان الخالدي الذي تسلمته من العراق

ترامب: نريد 50% من ملكية تطبيق تيك توك

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram