باريس/ يوسف المحمداوي- لقد تأخرنا يا كاظم.- كم الساعة؟- الخامسة مساءاً- لسنا في بغداد يا يوسف، نحن في باريس التي لا تغيب عنها الشمس إلاّ بعد الساعة العاشرة ليلاً، ومع ذلك أنا معك في مسألة التأخير، لأن اليوم عطلة وسنضطر للوقوف طويلاً مع طوابير الزائرين لقطع تذاكر الدخول.
صعدنا المترو وما هي إلا نصف ساعة لنجد أنفسنا متوسطين ميدان "تروكا ديرو" أو ما يسمى قصر شايو، فيما يقف برج إيفل شامخاً خلفه، ميدان كبير وكأنه صمم ليكون مدرجات لمسارح وساحات عرض لفرق موسيقية ومسرحيات لهواة ومحترفين.. هناك رقصة لفرقة افريقية، وهنا عزف لفرقة هولندية، رسامون افترشوا الأرض عارضين إبداعات ريشهم، فنان بورتريت يغريك برسم وجهك في الميدان، كانت لي الرغبة في ذلك، ولكن لطول انفي أحكام أعاقت تحقيق تلك الرغبة، ونحن نحث الخطى صوب وليد غوستاف (مصمم البرج) الشرعي، واجهتنا عن يمين ميدان (تروكا ديرو) حشود من الزائرين افترشوا حدائق تخلب العقول بعد الذهول، وهم يتابعون مباريات كأس العالم في جنوب أفريقيا من خلال شاشة بلازما عملاقة نصبت أمام البرج.rn26 شهراً مدة الإنجازوقفنا في طابور طويل يقع في الجهة اليسرى من البرج، وهو مخصص للراغبين في صعود البرج عن طريق المصعد، أما طابور الجهة اليمنى منه فهو لأصحاب العافية القادرين على تسلقه من خلال السلم، وبعد ساعة ونصف من الانتظار تمكنا من قطع التذاكر ودخول عالم هذا المارد الحديدي الساحر.. هل صحيح أنا في باريس وداخل برجها الذي لم أره إلا في مواضيع مختصرة أثناء الدراسة أو في الأفلام؟.. نعم أنا في البرج.. الساعة حينها تشير الى الثامنة مساءً حسب التوقيت الفرنسي.ولما يمتلكه من ملامح فرنسية ولغة كانت لأخي كاظم القدرة على كسب ود العاملين ومعرفة ما لا نعرفه عن البرج من موظفيه، أحدهم يدعى دنيس ساله قال: قام المهندس غوستاف بيل بتصميم هذا البرج في السادس والعشرين من كانون الثاني عام 1887 ليكون مدخلاً للمعرض الكوني الذي أقيم في باريس عام 1889 لجعله يتوافق مع الذكرى المئوية للثورة الفرنسية آنذاك، مضيفاً، ان العمل فيه استمر لمدة (26) شهراً بمشاركة ما يقارب الـ (350) شخصاً ما بين مهندس وعامل لتنتهي جميع الأعمال فيه في الحادي والثلاثين من آذار 1889، وتم افتتاحه رسمياً في السادس من تموز من العام نفسه.rnكلفة البناء استردت من مبالغ تذاكر الدخولكلف بناء البرج مادياً نحو (7.800.000) فرنك ذهبي فرنسي، تم استرداد معظم المبلغ من تذاكر دخولية المعرض الكوني في العام نفسه، وهنا استوقفني سؤال كبير، بناء بهذه الدقة والضخامة تم تشييده بفترة قياسية وبأدوات تعود لذلك القرن وبقدرة بشرية محدودة ومبلغ تم استرداده من تذاكر دخوله.. لماذا ونحن في القرن الواحد والعشرين وبعد مضي سبع سنوات وفي ظل موازنات انفجارية لم نحظ ليس ببناء، بل بترميم ما هدم او عطل من مبانينا، آثارنا، معاملنا، شوارعنا، كهربائنا، مائنا.. و.. و.. وتتعدد البلوى والحزن واحد، لم أجد جواباً مقنعاً لسؤالي غير حسرتي والعودة للاستماع الى ما تجود به ذاكرة السيد دنيس عن البرج.شيد البرج على مساحة قدرها (15.625) متراً مربعاً ويرتكز في تشييده على أربعة أعمدة تكون فيما بينها قاعدة تبلغ أبعادها 125 × 125 متراً، ويزن البرج (10.100) طن من الحديد، حيث استخدمت في بنائه (18.038) قطعة حديدية و (2.5) مليون مسمار.نحن الآن في الطابق الثاني، وهذا الطابق يحتوي على عدد من المطاعم ومحال بيع التحف التذكارية.rnملك العلو لأربعين عاماًوأنا أدور في طابقه الثاني بأكثر من عين على ذلك السحر استوقفتني حكاية قرأتها يذكر فيها أن أحد السياح في أفريقيا شاهد لوحة ثبتت على شجرة كتب عليها (في حالة هجوم وحيد القرن أصعد ثمانية أقدام، أما في حالة هجوم الفيل فأصعد (14) قدماً لتكون أكثر أماناً).. أما نحن  فنحتاج الى أكثر من (324) متراً وهو ارتفاع برج إيفل لنكون بمنأى من هجمات الإرهاب والأزمات وصراعات الساسة التي أصبحت الصفة السائدة للمشهد.كان ارتفاع البرج عند الإنشاء (300) متر، ولكن بعد إضافة الهوائي الخاص بالبث الإذاعي والتلفازي أصبح (324) متراً ويحتوي على سلم مؤلف من (1665) درجة، فضلاً عن وجود المصاعد التي تبلغ قمة البرج وتقوم بأكثر من مئة رحلة يومية، أي بمعدل رحلة واحدة لكل ثماني دقائق.اعتلى المهندس غوستاف إيفل كرسي العرش لمدة أربعين عاماً كملك لأعلى بناء في تاريخ البشرية قام بتشييده الإنسان، لكنه فقد ذلك العرش على يد ناطحة السحاب (امبايرتسيت) التي شيدت في نيويورك عام 1931 المكونة من (102) طابق بعلو (441) متراً، وهكذا نزل غوستاف عن كرسي سلطان العلو لكنه أعتلى صهوة المجد ببقاء قلادته التي صاغها بحديد الإبداع على نهر السين.rnنقد ومدح لأقامتهفاتنا ان نذكر أن تحت البرج يوجد تمثال نصفي مذهب صغير لمهندسه غوستاف، وفي الطابق الأول من البرج يوجد المتحف السمعي والبصري المؤرشف لحكاية تشييده من الألف الى الياء مقروناً بالوثائق والصور، الغريب أن هذا المتعملق بأبهته الحديدية وسحره وإطلالته البهية على نهر السين كان من الممكن ان يذهب الى معامل صهر الحديد وينتهي وجوده، حيث لاقى في بداية