أسامة الشحماني يسودُ الشعرُ خارطة الآداب في العراق بشكلٍ عفوي لافت يدعو للتأمل، إذ يحتفلُ تاريخُنا الثقافي ولاسيما الحديث بكمٍ خانقٍ من الشعراء، مازال الأعمُ الأغلب مما طبع من كتاباتهم بعيدا عن دائرة المعالجة النقدية، على إن هذه الهيمنة الشعرية لم تكن
لتقلل من أهمية وحضور مكوِّنات الثقافة العراقية بوجوهها وأجناسها الأخرى داخل المشهد الثقافي العراقي والعربي، وخصوصاً في مجال القصة، فقد احتل المشغل السردي القصصي العراقي موقعاً متميزاً وخاصاً في مدوَّنة السرديات العربية. موقعٌ حفلَ بقامات مبدعة ما أن يشرعُ المرءُ لتدوين ملاحظة أو رأي ما في مجال القصة العراقية حتى تقعَ نصبَ عينيه أسماء كبيرة مثل محمد خضير، جليل القيسي، محمود جنداري، مهدي عيسى الصقر، موسى كريدي، فهد الأسدي، لطفية الدليمي، أحمد خلف وغيرهم ممن فنَّدَ مقولة من ذهب الى أنَّ للقصة مكانة متأخرة في واقع الثقافة العراقية! لقد استطاعت نتاجات هؤلاء استمالة القارىء العربي لفنية وثراء ما قدمتهُ من متون سردية حدَّت من ارتفاع نبرة المُعلن والمسكوت عنه وراء حصر الثقافة العراقية بالشعر.rn rn rnالقاص زعيم الطائي، علامة متميزة في واقع القصة العراقية، وأحد أقطاب جيل أرسى قيم التحديث على مستوى الرؤية والبناء الفني، وتميَّز بتجارب ذات فروق جذرية. دأبَ الطائي ومنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي على نسج خيوط مشروعه بروية وتأن، فهو كاتبٌ مقلٌ ومتميِّز في تجاذب لغته ومبانيه مع إضاءات شعرية تنزع لثراء وتنوّع مظاهر السلوك اللغوي بانزياحات وتشخيصات فنية ومقومات جمالية تفضي لفتح متوالية احتمالات التلقي ولتعدد المعنى، كيما يتسع لإيحاءات ورموز، تواريخ ومآثر شعبية، ملاحم وأساطير المجتمع العراقي وبيئات مدنه الصغيرة، التي مثلت أهم الوحدات السردية لدى الكاتب. أضافت نتاجات الطائي رصيداً جديدا لأساليب تماهي الأمكنة مع الحدث، وشغلت مكانة مرموقة بين ما قدَّمه كتاب القصة في العراق والعالم العربي. حيث شقَّت تجربتهُ طريقاً مختلفة في مسارات قراءة أبعاد صورة المكان الفكرية والإجتماعية والشعرية وخطت بالبنية القصصية خطوات مهمة نقلتها من مرحلة التجريب على مستوى التعامل مع المعطى المكاني بوصفه فضاءً حاملاً للرؤية البصرية والأخرى الحلمية الى مرحلة فك شفرات الأمكنة لتأسيس وترسيخ نموها وتطورها داخل السرد ثمَّ تحويلها الى شخصيات قصصية حيَّة وبنى حكائية تشتملُ على مظاهر أنا مستقلة تحتضن الأشخاص وتستبطن ذواتهم من الداخل. أي أنَّه نجح في تحرير المكان من كونه بُعداً جغرافياً صامتاً أو خلفية تقليدية لاحتواء صيغ وكيفيات القص. التركيز على المكان إذاً هو السمة البارزة الظاهرة على مجمل نسوج الطائي* السردية، فقد حرص على إبرازه ككيان مركَّب ومركز دلالي أساس يتراءى للقارىء ومنذ اللحظة الأولى في الوحدة العضوية للقصة، ولم يحدث له أن قدَّم أمكنته باسلوب ثانوي لا يوحي بكونها رأس المال الرمزي للنص، ومن هنا عُرفت نتاجاتهُ بعوالمها المائجة بأمكنة أكسبها صفات سميوطيقية وقيم دلالية جعلت المكان يبوح بكوامنه ويحكي شهادته على الأشياء والأشخاص. أمكنة الطائي ومدنهِ تحملُ قيمة الإتصال الدلالي بحقائق تقود المتلقي الى المكان نفسه في الواقع، إلا إنَّه بارعٌ في تقديمها بتقنيات سردية تنفلتُ من قبضة التلائم مع وقائعها الخارجية إذ يحوَّل المدن الى مسارح واسعة يتداخل فيها الحدث التاريخي والبعد الواقعي بمقتنيات وعناصر المتخيَّل ويتجاور في صورتها معنيان غير متجانسين، الأوَّل له حضور شعري إنفعالي قوامه تدفق لغة ذات زخم عالٍ بالتضادات والصياغات الشعرية والثاني حكائي أمين على واقعية المكان ويرتبط معه بشبكة علاقات ذات أرضية موضوعية. من بين النصوص المتميزة التي بحث فيها الطائي عن ذات المدينة ليجعلها نواة تستقطِبُ كلَّ إمكانيات السرد قصة بعنوان (الدغارة هواء سنوات الماضي)، "على مبعدة خمسة عشر ميلاً من محافظة الديوانية، الى الجنوب، وطريق بغداد السريع من الغرب، ترقد ناحية الدغارة، نقطة وهمية متناهية الصغر فوق خريطة نسيانها، كأن مدناً أخرى ابتلعتها وأوقفت نموها، هائمة وسط ليل داكن مشبع برطوبة النخل وسكون البراري، ونهار ذي ظل صامت، مدينة لها شحوب الأحلام وأيام التقاويم الساقطة، غادرها أبناؤها منذ آخر طاعون تفشى في هوائها، وعادوا اليها شيوخاً ضامرين بعد أن افتقدوا رائحتها الفريدة طوال ذلك الزمن البعيد". الدغارة نصٌ يهبُ نفسه للقارئ فيجعله يشعرُ بما تشعرُ به المدينة وطبقات الزمن التي ترسبت عليها فضلا عمَّا اشتملت عليه من أحداث وتواريخ وتوترات درامية مفتتة داخل السرد. وكان من الممكن لهذا النص أن يكون رواية كاملة لو أن الكاتب بدأه على أساس الاستغراق في مطِّ خيوط وتشعبات مسارده لتتسع لامتدادت ما تموضع في بنيته من شخصيات ورموز وأحداث تمازجت أمشاجها مع اسطورة المكان، ولكنه أبقاه في إطار ما مثلهُ من تجربة أو مشروع قصصي مكثف يندرجُ في الكثير من تفصيلاته ضمن ما سمِّي بالواقعية السحرية، التي تمتصُ وتستوعبُ الاحداث لتعيد عجنها و
الدغارة ذاكرةُ مدينةٍ تسلَّقت أيامُها السحب
نشر في: 24 يوليو, 2010: 06:50 م