شاكر لعيبيالكناية وتسمّى بالعربية التعريض والتلويح والمجاز المرسل أيضاً، وتقوم على أساس الاستعاضة عن فكرة معينة بما يلوّح بها تعريضاً وليس تصريحاً مباشراً. إنها العدول عن التصريح بفكرة مجردة أو بصفة كبيرة إلى الإشارة إليها بشيء منها ومن مستلزماتها:
فلان حمّالة سيفه طويلة، أي أنه مهيب شجاع. استعضنا عن مفهوم (الشجاعة) العريض بمستلزم جزئي له (حمالة السيف). الكناية تقوم لذلك على علاقة (تلازم) كما يقول البلاغيون وليس تشابه. عندما نقول أن (دار فلان كثيرة الرماد) فنحن نلوّح بهذه العبارة عن فكرة كثرة ضيوف الدار وكرم أهلها الذين لا يتوقفون عن صنع الطعام وبالتالي كثرة الرماد في دارهم. ثمة شيء جزئي (الرماد) يعبر عن فكرة كلية (الكرم). موطن الأسرار= كناية عن القلب. الجزئي (الأسرار الصغيرة) يعبّر عن مطلق (القلب بمعناه العربي أي الروح).مدينة النور = كناية عن باريس. الجزئي (لنور) يعبّر عن الكليّ (مدينة المعرفة، باريس).ومهما كثرت الوسائط للوصول إلى الفكرة العريضة فهي كلها من طبيعة جزئية. يجري في الكناية التعريض والتلويح دائماً بمستلزمات جزئية لقول المعنى الأساسي. الكناية هي "الدعوى ببيّنة" كما يقال. وفي جميع الشروحات المطوَّلة لأنواع الكناية في البلاغة العربية لا نخرج، لحسن الحظ، عن فكرة الجزئي الملموس، البيّنة، الذي يدل على الفكرة الكليّة التجريدية، وهذا التحديد يطابق، لحسن الحظ، تحديد الكناية في اللغات الأوربية، الأمر الذي يسهّل لنا جملة من المقاربات الثقافية البصرية على المستوى العالمي.في البلاغة البصرية، يُعبَّر عن أفكار تجريدية كبرى أو كبيرة بلقطات تركّز على تفصيلات دالة على تلك الأفكار الكبيرة. إن فكرة الشيخوخة تقال بصرياً بالتركيز فوتوغرافياً على يديْ سيدة عجوز مثلاً من دون تفاصيل أخرى أو أقل التفاصيل للسيدة. وإن فكرة الزمن التجريدية تقال بطريقة مماثلة عبر وضع الأيدي الشائخة تلك إلى جوار ساعة في صورة فوتوغرافية أخرى. الساعة تغدو رمزاً بلاغياً للزمن. لكن الرمز اصطلاحاً في البلاغة العربية لا يعنى ما ألفناه اليوم، فهو "الذي قلت وسائطه، مع خفاء في اللزوم بلا تعريض" (أحمد الهاشمي: جواهر البلاغة، ص350)، أي أنه في الحقيقة تلميح وإلماحة وبديل عن الإشارة الخفية بالعين أو الحاجب، وليس مفهوم الرمز الأوربي الواصل إلينا متأخراً. الساعة إذن هي غمزة عين سريعة تنبِّه المُشاهِد للزمن. إن وضع العنصرين الجزئيين في صورة واحدة: اليد العجوز والساعة، يود تكثيف إحساسنا بالفكرة، بل صدمنا بها، لأنهما مجتمعين يحيلان فوراً إلى ما يقصده مبدع العمل. ثمة لعب على الشعوري واللاشعوري في ذهن المشاهد يتعلق بدلالة الإشارتين مجتمعتين في فضاء واحد.ثمة علامات بصرية جزئية متنوعة تقوم على أساسها الكناية في صورة أخرى: الأسلاك الشائكة في سجن أمريكي في العراق والقبعات الغريبة الموضوعة على رؤوس المسجونين وزاوية التقاط الصورة هي جزئيات مجتمعة للتعبير عن فكرة كنائية شاملة، وهي فكرة الحبس من دون شك. نحن لا نعرف بالضرورة أي السجون هذا وأي البلدان تلك ولا نعرف الرجل وصغيره، لكنا نتعرف على الفور على فكرة السجن نفسها عبر مستلزماتها كما تقول البلاغة التقليدية.التعريض – أو التلميح- هو خلاف التصريح، يقول الهاشمي (ص351)، وهو أساس الكناية. في الصورة ثمة تلميح أكيد بالحبس. لكن معترضاً سيقول أن رؤيتنا المستمرة في العالم المعاصر لأشكال (التلميح) المجازي القريبة مما نراه في الصورة قد جعلت من المُعَرَّض به مُصَرَّحاً به ومفهوماً وبداهةً: كل أسلاك شائكة هي السجن وليس المقهى. وهذا صحيح بالطبع ويتعلق بتآلفنا مع اللغة الأيقونية المستعادة صيغها من دون توقف في الإشهارات ودور العرض السينمائية والتلفاز. ثمة شعريةٌ ما في التلميح تمنح المشاهد الفرصة للمشاركة والتأويل، لكن التلميح في سياقات متأخرة ثقافياً وإنسانياً وتكثر فيها المحرّمات من كل نوع قد يتحوّل إلى نوع من تلصصية من طبيعة مَرَضيّة، وهو ما نشاهده في تركيز بعض الأفلام والفيدو كليبات العربية على الجزئيات الدالة على كل ما هو محرم ثقافياً كالبطون والأرداف المعبِّرة عن الجنس الممنوع.قبل ذلك ومنذ نهاية القرن التاسع عشر كانت النزعة التلصصية عينها سائدة في إنتاج البطاقات البريدية التي تمثل لنساءٍ من المغرب العربي، وفيها نرى وجهة كنائية تشدّد على التفصيلات الجزئية الإلماحية الأيروتيكية، خاصة الأثداء، كما في البطاقات البريدية الشهيرة التي التقطها "لينيرت ولاندروك" وغيره في تونس والمغرب والجزائر بداية القرن العشرين. لقد استعاضت "الفيديو كليبات" العربية الراهنة عن هذا العضو الأنثوي المُحرّم إظهاره بتاتاً بكناياتٍ أخرى يمكن تمريرها، خاصة البطون والأرداف والأقدام الموحية (انظر مثالاً على ذلك فيديو كليب للمغنية المصرية شيرين عنوانه"صبري قليل" من أخراج نصر محروس).يمكن فهم "النكتة" على أنها نوع من الكناية، لأنها نوع من التعريض أو التلميح الذي هو خلاف التصريح، ولأن الكناية هي "الدعوى ببينة" كما أشرنا. في النكت
تلويحة المدى ..الصورة بصفتها كنايةً
نشر في: 30 يوليو, 2010: 04:55 م