حسين علي الحمدانييدرك الجميع أننا لا يمكن أن نتقدم خطوة واحدة من دون مشروع واضح لبناء مجتمع قادر على أن ينهض على قواعد مؤسساتية تحفظ التوازنات بين قوى المجتمع المتنوع من جهة، وتوفر الحد الأدنى من المشروعية القانونية للسلطات المدنية،
التي هي العمود الفقري لأي مجتمع مدني، والذي لا يستقيم وجوده في حال ضعفها أو تداخلها أو ضبابية العلاقة فيما بينها. فهي الشرط الأولي لمشروع المجتمع المدني المعاصر ,ذلك المجتمع الذي يتراجع فيه الشخصي؛ لحساب القانوني والمؤسساتي.rnولا يمكن للمجتمع المدني أن يوجد، وإذا وجد لا يمكن له أن يترسخ في الواقع؛ ما لم تكن (حالة التعصب) في أدنى درجاتها لأنه مجتمع قانوني، أي مجتمع عادل، يقف الفرد فيه في مواجهة الفرد، وليس الجماعة في مواجهة الجماعة. فقيمة الفرد فيه تتحدد من خلال ما يمتلكه الفرد من إمكانيات وما يقدمه لمجتمعه الإنساني من تضحيات، وليست قيمته مرتبطة بانتماءاته العشائرية، أو العرقية أو المناطقية أو المذهبية أو الطائفية، تلك الانتماءات التي تمثل القاعدة الأولى لكل ألوان التعصب المقيت . محاربة التعصب بأنواعه، هي إحدى الخطوات الأولى لصناعة المجتمع المدني المتسامح، وليس العكس كما يتوهم البعض ممن يحسن الظن في مثل هذه الارتباطات المتخلفة التي يظنها لبنة أولى في التكتل المجتمعي. لا يمكن إرساء قيم المجتمع المدني، ولا مؤسساته دون وجود أرضية من التسامح صالحة لضمان عدم اختراق تلك الانتماءات للبنى المؤسساتية المدنية. وجود المؤسسة قد يخفف من حدة تلك الانتماءات والعصبيات، ويكبح من جماحها الذي تمليه قوة الجماعة في مواجهة الفرد، لكنه لا يمنح ضمانة واقعية بعدم اختراقها من قبل العصبيات التي قد تُسخر المؤسسة المدنية لصالحها . التشكيل الحديث للمجتمع المدني صناعة غربية كغيره من مخرجات الواقع الغربي، الذي لم يأخذ في اعتباره الحالات اللاحقة التي ستحاول تأسيس هذا المجتمع على رواسب من انتماءات متناقضة أشد التناقض . فهو قد بدأ التنظير للمجتمع المدني من حيث انتهى ذلك المجتمع الذي أصبحت المؤسسات المدنية فيه نتاج حرب ضروس ضد جميع أشكال التعصب والإقصاء وعانت أوروبا من هذا كثيرا قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. إن تجاهل هذا الأمر يقود إلى صناعة مجتمع مدني متطور في هيكله، لكنه في روحه الذي يحركه، طائفي عشائري متخلف. ولعل النموذج العراقي خير شاهد على هذه الحال. فالديمقراطية مازالت حديثة حتى بأفكارها وتنامي حالات التعصب، جعلها ديمقراطية مشوهة بسبب الانتماءات الطائفية والولاءات الأخرى ، عندما يتم تقاسم المؤسسات المدنية، على أساس غير مدني، أي على أساس من التعصب الذي ينافي شروط المدنية ذاتها فإن هذا يُولِد دولة مشوهة وحكومة قائمة على أساس المذهب والطائفة والعرق. لذا فإن التسامح الذي يكون المقدمة الأولى للمجتمع المدني، ليس خيارا لنا من مجموعة خيارات، بل هو ضرورة بقاء، وضرورة مرحلة، وضرورة تقدم ونهضة. والتسامح لا يعني التسامح مع التعصب والعصبيات غير المدنية التي هي بالضرورة تحمل في مكوناتها النقيض لكل ما هو مدني. التسامح، يعني محاولة إجهاض كل ظاهرة من مظاهر التعصب، وتعريتها، وكشف زيفها من جهة، وخطورتها على المجتمع الواحد من جهة أخرى. والتعصب الذي نعاني منه اليوم، هو صناعة إنسانية، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر. ومناقشة أسباب نشوء التعصب أو تناميه، هي بلا شك، من مقدمات صناعة ثقافة التسامح. ولعل من يتأمل حالة التعصب التي نعاني منها ؛ يجد أنها ترجع إلى عدة أسباب، أهمها1- استخدام الدين كوسيلة دعائية في الانتخابات وتعدى ذلك إلى بروز ظاهرة (المذهبية) وهذا تكرس بشكل واضح في تشكيلة مجلس الحكم الذي اعتمد مبدأ المحاصصة الطائفية وانتقلت هذه الحالة الى الحكومات العراقية المتتالية بما فيها الحكومة القادمة , وجود هذه الطروحات وتناميها، عزز من أشكال التعصب الأخرى مما جعل حالة التعصب ليست فكرية خالصة، بل هي في اشتباك دائم ومواجهات وتخندقات.2- المؤسسات التي بُنيت بعد التاسع من نيسان كانت مذهبية متعصبة ، تؤسس للتنابذ المذهبي والطائفي. وبهذا، ينشأ الجيل الذي يراد له أن يكون قاعدة المجتمع المدني، ينشأ على عداوة مواطنيه ويؤدي إلى احتقان حاد تجاه هذا الآخر المختلف عنه من بني وطنه. ولا شك أن هذا الاحتقان سيبحث له عن متنفس في الواقع وسيأتي هذا التنفيس على صورة ممارسات عنصرية، موغلة في ذلك، حد القتل والتمثيل.3- النقطة الواضحة جداً في الخطاب الديني العراقي إن رجل الدين يتعامل مع الدين كتأريخ فقط ما يجعله بشعور أو دون شعور منه يؤجج التعصب داخل المتلقي والشواهد كثيرة على ذلك وقلة من رجال الدين يركز على روحية الإسلام وتسامحه بل الأغلبية في محاضراتهم وخطبهم يركزون على ما يفرق المذاهب داخل الدين الواحد. وخاصة لدى الكوادر السفلى من أبناء الانتماء المغلق، ناتجة عن الجهل بالآخر. إنهم يعتقدون أن ما هم عليه هو الصواب القطعي، وأن ما عليه الآخر هو الباطل القطعي؛ لسبب واحد، وهو الجهل بأن لهذا الآخر مقولاته واستدلالاته. وانعدام ثقافة التنوير والتب
صناعة المجتمع المتسامح
نشر في: 31 يوليو, 2010: 06:17 م