بغداد/ واع تطل قبة ضريح الزاهد الصوفي الجليل عبدالقادر الكيلاني البيضاء على محلة باب الازج ببهائها ونورها الوقاد لتضفي على المحلة القديمة بركاتها وتكسبها اسم صاحب المقام قدس سره.محلة باب الشيخ التي تعود الى زمن ما قبل العهد السلجوقي (395هـ- 1133م) والتي تحول اسمها مع وجود الحضرة القادرية من اسمها القديم الذي اشتهرت به تاريخيا بـ(باب الازج)
تعتبر نموذجا صادقا للحياة البغدادية بكل ابعادها الحضارية من معمار وممارسات اجتماعية وفنون وطقوس دينية عبر العصور.كان المرقد الشريف وما زال يؤثر في طريقة حياة اهالي المحلة وتلعب الطقوس الدينية والممارسات التي يمارسها زوار الشيخ الجليل عبدالقادر الكيلاني دورا كبيرا في تفرد محلة باب الشيخ عن باقي المحلات البغدادية المجاورة رغم تلاصق وتلاحم الازقة والمحلات.فقد كان المكان يضج بالزوار والحجاج والشيوخ الدراويش والمتصوفين طوال ايام السنة ولكن حلول شهر رمضان في محلة باب الشيخ لها طعم ونكهة خاصة لا يعرفها اهالي بغداد كما يعرفها ويعيشها (الشيخليون) عبر العصور. ولنرجع الى طقوس هذه المحلة عبر الزمن الغابر ونرى كيف يستقبل اهل محلة الشيخ قدومه، فحين يقترب موعد مراقبة الهلال وعند موعد الرؤية يصعد اهالي باب الشيخ الى سطوح دورهم العالية لمراقبة السماء، وحين يظهر الهلال تزف البشائر باطلاق النار من مسدسات (الوبلي) ابو البكرة في الهواء، وتهلل النسوة بالزغاريد ويكبر المؤذن من على منارة الحضرة القادرية الشريفة، فرحا وابتهاجا لمقدم الشهر الميمون، بعد ذلك تبدأ مراسيم استقبال رمضان باعداد المطبخ العائد الى المسجد القادري (الشوربة خانة) وتطهى في القدور الكبيرة وجبات الافطار الواسعة العامرة، والتي تقام في كل يوم من ايام شهر الصوم الكريم. ولهذه الموائد التي كانت تقام في الماضي البعيد في ديوان الاسرة الكيلانية (الدركاه او الديوه خانه) من قبل السادة الكيلانيين باسلوب خاص متبع لديهم منذ العهد العثماني، اذ كانت هذه الوجبات تقدم لجميع شرائح المجتمع من كل يوم وجبة افطار لطبقة من الناس وكانت تتم طيلة ايام شهر رمضان في (الديوه خانة) اي ديوان الحضرة القادرية التي تقابلها والتي يفصل بينهما شارع باب الشيخ.وبعد الافطار يذهب الرجال الى صحن الحضرة لاداء صلاة التراويح وبعد ذلك يتفرق الناس الى شؤونهم المختلفة فمنهم من يذهب الى الجلوس في المقاهي المنتشرة في المحلة ومنها مقهى ياس وكان باتصال معها مباشرة مقهى صيفي تابع لها، كانت تمارس فيه لعبة الصينية ومن امهر لاعبيها القدماء خضير القصاب.وبعد ذلك تلعب لعبة المحيبس الشهيرة بعد ان تأتي الى باب الشيخ فرق احدى محلات بغداد الاخرى، اذ تستمر هذه اللعبة الى السحور وهي لعبة لها محترفوها واسطواتها، وفي منتصف رمضان تأتي من مدن كركوك والسليمانية مجاميع من المتصوفة الدراويش لاقامة حفلات الذكر والاحتفاء بليلة 27 رمضان إذ يقرأون التواشيح وقصائد مدح الرسول على ايقاع الدفوف.ومن القصص الغريبة والشخصيات التي يذكرها شيوخ محلة باب الشيخ قصة الصوفية (سكينة المصرية) العمياء التي كانت تسكن احدى غرف الوقف في الحضرة القادرية حيث كانت تخرج صباح كل يوم بصحبة دليل مغربي من الحضرة الى منطقة الميدان مرورا بمحلة باب الشيخ والمحلات المجاورة الى منطقة المدائن، وكانت تنشد في تجوالها اليومي المدائح النبوية والقصائد الدينية مثل اشعار الشيخ الصوفي محمد البوصيري:كيف ترقى رقيك الانبياءيا سماء ما طاولتها سماءوكان الناس يقفون لمشاهدتها ويرددون بعدها في خشوع وتعاطف:(صلوا عليه وسلموا تسليما) وهي تكمل مسيرها بينهم وتقرأ الاشعار بنغم الصبا الحزين.وتعد محلة باب الشيخ وحدة حضارية بغدادية متكاملة يلاحظ فيها التطور المعماري للبناء البغدادي الجميل الذي امتازت به مدينة بغداد من عصورها القديمة، وقد كانت مهنة البناء بكل تفاصيلها المعقدة من المهن التي يجيدها ابناء محلة باب الشيخ ويتقنون فنونها اتقانا جعل (خلفات) تلك المهنة من اشهر اسطوات بغداد ونذكر منهم: الاسطة احمد خضير الذي اشتهر بعمله في ترميم طاق كسرى في المدائن في اربعينيات القرن العشرين، وقد كان ناظرا لاعمال جامع الملك غازي ومنهم الاسطة كريم بن رجب الجنابي الذي قام ببناء سينما الوطني المطلة على شارع الرشيد والمقابلة لمسجد سيد سلطان علي، كما ساهم ببناء البلاط الملكي في منطقة الكسرة في الاعظمية واختص بعمل الترميمات التي تجري على الحضرة الكيلانية ومنها القبة البيضاء الشريفة.واشتهرت محلة باب الشيخ كذلك بصناعة اليزر قبل شيوع العباءة لدى النساء المسلمات والطوائف الاخرى كالنصارى واليهود، وكانت تتميز بالوانها الزاهية وتطرز الفاخرة منها بالكلبدون. واشتهروا كذلك بالحياكة وباتقانهم لقراءة المقام العراقي ومعرفة فنونه وذلك لجلوسهم الساعات الطويلة خلف (الجومه) لا يجدون ما يأنسهم سوى قراءتهم لهذا الفن العريق ولكن اتقان المقام من باب الشيخ يرجع الى وجود الضريح الشريف في تربة المحلة، والذي كانت تقام فيه الاذكار واقامة الاذان والتجويد للقرآن الكريم والتمجيد والتسبيح والابتهالات، كل ذلك جعل رجال المحلة يتقنون اصول وفروع المقام العراقي بكل صنوفه، وقد اشتهرت منهم طبقة كبيرة من القراء امثال نجم الشيخلي ذي الحنجرة الذهبية والحجي عباس
نفحات الإيمان والكرم في رمضان الحضرة القادرية
نشر في: 1 سبتمبر, 2010: 07:55 م