شاكر لعيبيالقاعدة اليوم هي أنك قد تكون مبدعاً في الحقل الذي تعمل فيه لكنك من دون سلطة ثقافية. النتيجة أن منجزك لا قيمة له. تطغى لذلك العلاقات العامة على المنجر الإبداعي. كان الأمر دائماً كذلك، لكنه اليوم يأخذ بعداً مفرطاً. ولو أضفنا لذلك طبيعة النصوص والمقتربات النظرية المرافِقة لها لتيقَّنا من أن الحالة أنتجت ما لا يُحسد أحدٌ عليه. تعلم المثقفون العراقيون بسرعة ومن دون ممهدات طبيعية،
حسب يقيننا، فن العلاقات العامة ذاته تأثّراً بالمناخ العربيّ السائد العام، لكن أيضاً بسقوط القيم الثقافية العميقة واحدة تلو الأخرى، وترافُقاً باهراً من انهيار الدولة المنتظم منذ العقوبات الدولية على العراق وما تلاها من غزو، ثم ما تلا ذلك كله من انفراط عام، اجتماعي وسياسي نشهد الآن نتائجه في الاحتراب الشرس على السلطة.تبدو المعادلة التي نقيمها بين انفراطين، بين أخلاقين من البداهة بمكان. ومهما حاولنا إيجاد تفسيرات لها أو استثناءات لا شك فيها، فإنها تظل قائمة إلى حين، بصفتها الظاهرة العريضة التي يلاحظ المتتبع للشأن الثقافي المحليّ انهماك القلوب الصافية بمتابعتها يومياً تقريباً في الصحافة المحلية الجادة. انفراط يشابه المرض وخُلُق يتشابه مع نقيضه، لا يمسّ البلد من الداخل فقط لكن أيضاً يتلامس مع مثقفيه المتفرجين من الخارج ببرود قاتل وبعدم رغبة عامة في التماهي الروحي النبيل مع آلامه، ولا أستثني حتى نفسي من ذلك.القاعدة العامة أنك من دون نص طالما أنك من دون تأثير، حتى لو واظبتَ على نشر نصك. وأنك لن تكون موجوداً في الثقافة، قراءة ونقداً، حتى لو كنت تخفق كل لحظةٍ بلحم حيّ. لا وقت للعباد بمتابعة دافئة، لأنهم مشغولون بالترويج عن أنفسهم والترويح عنها. ولهم الحق أيضاً في ذلك.في الثقافة العربية، والعراقية بدرجة من الدرجات، يقيم الكثيرون الآن في شرفة متخيَّلة، لا يطولها العقل أو الحس السليم الذي صار مشاعاً منذ أن انهارت الدولة فعلياً ومعها التاريخ رمزياً. لن يستطيع أحد إيقاف التاريخ الذي سيظل ينتج على الدوام أجيالا جديدة، مبدعة لكن الأمر يتمُّ في العراق في ظل شروط ترفع جداراً صينياً للالتباس.أظن أن الالتباس هو اسم اللحظة الثقافية العراقية الراهنة، وفي أثناء ذلك يقوم اللاعبون بلعب اللعبة، كل حسب ضميره. اللاعبون الجدد يبدون لنا أكثر اللاعبين مهارة، كأن لم يبق لهم سوى خيار المهارة، وهي محفوفة بالمخاطر. القاعدة الآن أن غالبية ظاهرة تطرح نفسها، بسبب انفراط عقد "روسو" الاجتماعي، بصفتها نسيج وحدها. هكذا سيكون هذا الجيل أفضل الأجيال، وهكذا يتوجب أن يبقى شطر من تاريخ الشعر والنثر العراقيين في العتمة، وأن يكون الغائب جسدياً عن أراضي العراق ومن لا نتواجه معه وجهاً لوجه من الميتين فيزيقياً وثقافياً. أمر صعب القبول.من الممكن تقديم تفسير افتراضي لن يرضي الجميع: إن مجتمعاً قِيْدَ وعُوِّدَ على الموت منذ الحرب العراقية الإيرانية، ثم حروب المتطرفين من كل لون، الموت اليوميّ المجانيّ، يتوصّل يوما بعد آخر إلى عدم الإيمان بأي قيمة ثابتة، بما في ذلك القيم الثقافية الرفيعة. أمر مرعب آخر لا بد من قوله. وعلى حد علمنا لم تُدرس حتى اللحظة تأثيرات الحروب ونتائجها المباشرة على الشخصية العراقية بما يليق ببلد عاشها لأكثر من ربع قرن. ليست الثقافة بمنأى عن ذلك، ستكون منسيّاً وميتاً لأنك لست خيراً من الأعزة الذين ماتوا بالمجان.ستكون من دون سندٍ ثقافيّ عربيّ أيضاً كما يعرف جميع اللاعبين الثقافيين، لأنَّ من لا يوجد شرطٌ عامٌّ، سقفٌ وضميرٌ ثقافيٌّ محليٌّ ومؤسسةٌ ودولة تحميه، فلن يتوقع أن يمدّ له إخوته العرب يد العون في مكان آخر. إن بعضاً من أهم أصوات حقبة الستينيات العراقية (سأسمي حسب الشيخ جعفر وفوزي كريم وعبد الرحمن طهمازي على سبيل المثال) قد تعرضوا للتنكر والنسيان العامد في الصحافة الثقافية العربية واسعة الانتشار. كان يتوجب ناقد مغربي، بعيد عن "مراكز صنع القرار الثقافي" لكي يمنح الشيخ جعفر ما يستحق من الدرس النقدي، بينما لا نقرأ الكثير حتى من الأخبار عن دواوين وبحوث فوزي كريم في تلك المراكز. عراقياً: كان يكفي التغييب القسريّ لشطر من حقبة السبعينيات لمدة ثلاثين عاماً لكي لا يلتفت نقدياً سوى القلة لشعره ونثره: لم يُقرأ إطلاقاً في الحقيقة هذا الشطر، كما تبرهن كل يوم الملاحظات النقدية هنا وهناك، وليس آخرها اعتراف محمد غازي الأخرس بذلك، ومقالة حكمت الحاج "السبعينيات مَا قَبْلَها وَتَلاها" التي تسمح لنا بوثوق كامل أن نقول بأن استنتاجاتها تخرج من معرفة محدّدة بدائرة ضيقة من شعراء السبعينيات البارعين، وأنها لم تقرأ إلا نادراً في دائرة أخرى، رغم أنها تقول ما تقول بثقة تُحسد عليها. إحدى نتائج الحرب، كما تبرهن حروب أوربا العالميتين وحروب العراق تقع في انفراط الجسد الاجتماعي والأخلاقي. لكن الحصانة الثقافية في أوربا أدّت إلى إعادة فحص ومراجعات شاملة بل ثورات ثقافية وانبثاق مدارس طليعية وإعادة الاعتبار للمهزومين سوسيولوجيا وقراءة المشاريع الثقافية التي استخف بها أسياد السلطات الثقافية ومشعلو الحروب، بينما ظل الشرخ يكبر في ثقافتنا بسبب غياب المراجعات الحاسمة والوقوف على تخوم هشة خشية على السلم الاجتماعيّ والثقافي من انفراط أكثر حدّة.
تلويحة المدى: انفراط العقد الاجتماعي والثقافي!
نشر في: 3 سبتمبر, 2010: 04:57 م