اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > عندما يتحول الكابوس إلى لحظة يومية واللحظة اليومية إلى كابوس

عندما يتحول الكابوس إلى لحظة يومية واللحظة اليومية إلى كابوس

نشر في: 18 سبتمبر, 2010: 04:25 م

صلاح حسنبغدادقبل ثمانية عشر عاما كنت قد وصلت إلى دمشق هاربا من سيف الديكتاتور بعد صدور حكم بالإعدام علي ، وفي أول مقابلة صحفية لي هناك قلت إن الأدب العراقي الذي سيلي مرحلة الديكتاتورية سيكون أدبا كابوسيا تماماً . اليوم وبعد مرور هذه السنين صدرت روايات عراقية جديدة ولأسماء كانت صامتة لأسباب يعرفها الجميع لكنها ليست كابوسية كما كنت أتوقع فقط ، بل هي الجحيم بعينه.
خلال اقل من شهر قرأت عددا من الروايات الصادرة حديثا عن أوضاع العراق خلال الأربعين سنة الماضية وحتى هذه اللحظة فشعرت إن رأسي امتلأ بالجثث والدم والأشلاء ، الخوف والترويع والصدمات النفسية والجنون بأشكاله كافة هي مواضيع هذه الروايات ، لكن الملفت إن الخوف هنا في هذه الحكايات لا يؤدي إلى فقدان الوعي لا هو ولا الصدمات النفسية لأنها من طابع آخر نسمع به لأول مرة .في رواية الشاعر سنان انطون الجديدة " وحدها شجرة الرمان " يود القارئ لو انه لم تقع في يده هذه الرواية لأنه لا يستطيع الفكاك من جحيمها  . يولد سارد الرواية في منطقة الكاظمية ببغداد لعائلة بسيطة الحال تمتهن غسل الموتى وتكفينهم ويبدأ بمساعدة والده في العمل أثناء سني المراهقة لكنه سرعان ما ينجرف نحو الفن ويختار الاحتفال بالحياة بعيدا عن الموت وطقوسه . انه يتمرد على والده لأنه يصر على دراسة النحت في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد . لكن انهيار الاقتصاد العراقي أثناء الحصار الاقتصادي وشظف العيش في التسعينيات لا يسمح له بتحقيق أحلامه بأن يصبح نحاتا معروفا، فيعمل صباغاً لبيوت حديثي النعمة وتجار الموت . بعد الحرب الأخيرة والاحتلال الأمريكي وموت والده وتفاقم البطالة يضطر إلى ممارسة المهنة ذاتها التي ظل يهرب منها طوال حياته فيعود إلى غسل الجثث وتكفينها . وبتفاقم العنف الطائفي ونشوب الحرب الأهلية تتراكم الجثث أمامه بشكل يومي ويهيمن الموت على حياته بشكل مطلق . لكن حتى الموت وطقوسه يكتسبان معاني جديدة في زمن الطائفية والقتل المجاني . كيف يتعامل الإنسان مع طوفان الموت اليومي مع انهيار كل الثوابت والمؤسسات الاجتماعية وتحول مدينته إلى غابة موت ؟  كيف يحافظ على إنسانيته ؟تتعمق الرواية عبر لملمة تاريخ فرد عاصر الدكتاتورية والاحتلال والحرب الطائفية في التاريخ العنيف والمعقد الذي عصف بالعراق بأكمله وتعيد طرح أسئلة أزلية عن علاقة الذات بالموت وعن صراعها مع المؤسسات الاجتماعية والسياسية والتاريخ الذي يجرف ويقتلع بلا رحمة ولا هوادة . ما يميز هذه الرواية،بالإضافة إلى تعاملها مع موضوع طقوس غسل الموتى وتكفينهم الذي لم يطرق سابقاً في الرواية العربية هو أنها لا تتهيب من التعامل مع موضوع الطائفية وخطابها الذي استشرى في المجتمع العراقي في السنين الأخيرة وأضحى علامة فارقة والعملية السياسية والاجتماعية الأكثر سطوة في التعامل اليومي . إنها رواية عن جحيم الحياة اليومية في بغداد تحت وطأة الموت الذي افترس المدينة وأعاد رسم حدودها ، لكنها أيضا تحتفي بصمود الإنسان وإصراره على البقاء .الرواية لا تبدأ من البداية العادية لكل رواية ، يشعر القارئ إنها بدأت قبل ذلك بقليل . يستفيد انطون من تقنيات السينما ويوظفها بطريقة مدهشة . الشاب الذي يعمل بغسل الموتى يعاني كابوسا ، إذ يرى حبيبته وهي ممددة على دكة ، هي ميتة ولكنها تتكلم وهو حي ولكن لا يسمع صوته . هذا المدخل السينمائي الغامض والمثير في الوقت نفسه سيقدم تصورا لما ستكون عليه الأحداث بعد نهاية الفصل الأول مباشرة لكن ليس من الممكن التنبؤ بما سيجري بعد ذلك .تقنية الفلاش باك ليست جديدة لكن الاستخدام الجيد لأي تقنية يجعلها صالحة دائما وهذا ما قام به سنان انطون في هذه الرواية الكبيرة التي تصلح لأن تكون شريطا سينمائيا . الزمن في هذه الرواية دائري وعائم ومتداخل وهي تقنية ساهمت في تعميق الحبكة الروائية وحافظت على إيقاع الحكاية الواقعية حتى النهاية . يختلط الكابوس بالحياة العادية في بغداد ولا يعود الفرد يفرق بينهما بعد اشتداد الحرب الأهلية ، ما يعمق هذا الإحساس هو العمل الذي يقوم به هذا الشاب وهو تغسيل الموتى وتكفينهم ولكن أي موتى أولئك الذين يقوم بتغسيلهم وتكفينهم ؟ هنا تكمن الحكاية .إنهم ضحايا الاحتلال والحرب الأهلية والانتحاريين والخاطفين والمقاومة وكل من هو مولع برؤية مشهد الدم ، وجثثهم المجهولة الهوية أما تصل ناقصة بدون رأس أو أن يصل رأس بدون جسد ، محروقة ، مثقبة ، مقطعة ، غريقة في نهر دجلة . يتعامل هذا الشاب بشكل يومي مع هذا الواقع الذي يجتاز الكابوس إلى ما هو جحيمي وغير قابل للمقارنة بأي شيء له علاقة بالخيال فيتحول كابوسه إلى لحظة عادية معيشة بكل تفاصيلها ، وتتحول لحظته العادية إلى كابوس . تكمن أهمية الرواية في كونها تعالج موضوعا ظل بعيدا عن متناول الرواية العربية وهي بالإضافة إلى ذلك تقدم صورة واقعية للغاية عما حدث في العراق من عنف غير مسبوق أثناء الاحتلال والحرب الطائفية وفترة الديكتاتورية البشعة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram