سعد ناجي علوانحين تقرر السينما ابراز وجهها الواضح وصوتها المستقيم، تترك النصوص على الطاولة وترافق يدها الكبرى (الكاميرا)، تسجل ما خبأته الطبيعة من حكايات بين ثناياها، بعيداً عن صولات القسوة والتعدي وسوء الفهم المرغم،
لإدراك أغاني الغائبين. أسلاك شائكة تعلوها خوذة عسكرية، ما بقي من صراع القوى وتخاذلها أمام الإنسان، بداية قاسية للفلم (أغاني الغائبين للمخرج العراقي ليث عبد الأمير- 2006) الذي يستقصي الأبعاد الاجتماعية والأثنية والسياسية والثقافية لبانوراما المجتمع العراقي، والتحولات التي طرأت عليه ما بعد 2003.ندخل فم البلاد (الأهوار)، تصافح الكاميرا بيوت القصب والبردي (ظلال سومر) تركض مثل طفلة مستبشرة بهدية غالية، تتجول بحرية تامة علّها تجد بعض العزاء الموازي لتوق الروح التي ما عاد يشجيها سوى مقامات المواويل الحزينة (يكون الغناء بأنواعه عاملاًَََ مشتركاً يزيد من وحدة ورؤية الفلم) الراغبة بالعودة الى قبر الحبيب، كناية عن الحزن العميق وتداعيات خراب الحاضر وخساراته التي لا تنتهي.ومع ان الفلم يقرأ أوجه الحياة العراقية بحياديه واضحة، إلا انه يحرص على منح الخصوصية الذاتية للمكان، وإبرازها كثيمة جاذبة لمختلف الفعاليات الإنسانية المتحركة في أطر مداراتها الثرة.ولن تجد قمة ألم تنحدر منها نحو حكاياتها المتعددة، أفضل من الأهوار ويد السلطة الغاشمة التي أحالتها إلى ذكريات موجعة وغصة في القلب. ولن تختلف المشاهد بعد ذلك في أرجاء الجنوب ومدنه من وحشة ودمار وانعدام متكرر للخدمات وسيادة العادات والأعراف والتقاليد العصبية والقبلية، سوى بمد الحزن الطاغي وسيادة العاطفة الدينية على وقته (يتأنى المخرج ليث عبد الأمير في نقل مراسيم العزاء وزيارة الأولياء ويقف كثيراً عند تداعياتها على الناس). إضافة الى أنه لم يهمل الإشارة الى التواجد العسكري الكبير لقوات التحالف المشتركة، وما استجد من تطورات إقليمية غيرت حياة الناس، وأخضعتها لمدلولاتها الجديدة. وعلى سبيل المثال لا الحصر يعجز الصيادون في البصرة والفاو عن استغلال مياه الخليج المعطل بفعل الخطر الإيراني والكويتي، ليبقى السياب شاهداً على عبث انتظار السفن وحبالها المتروكة على الشاطئ، مفصل مهم ينبئ عن انهيار الدولة وغياب القانون العراقي.ولا مناص بعد ذلك من معانقة بغداد ساحرة الثقافة والوجود، وما تغير من منازلة الزمان لها، شارع الرشيد ملتقاها الاجتماعي والعلمي والثقافي، سيخلو بعد الرابعة عصراً (لقاءات مع أشهر أصحاب المكتبات الثقافية)، وتناقص الرغبة في القراءة وشراء الكتب، وازدياد الرغبة في الهجرة.البتاويين أحد أجمل أحياء العاصمة وأكثرها حيوية، عبارة عن شوارع فارغة، بيوت تسكنها الوحشة وأزبال تملأ كل مكان، باتت مرتعاً للعصابات المختلفة والهجينة على واقعنا (احتاج الكادر لكتيبة حماية كي يصور).ولكي نتجاوز مرارة الواقع وخطره، علينا أن نعيش بتوازن، نعم هنالك حرية كبيرة لكننا ما زلنا بعيدين عن فهم كيفية بناء الدولة. بعض هذا التوازن ينقل كاميرات الفلم إلى مرقد أبي حنيفة النعمان وحلقات الدراويش وروائح الصوفية، مثلما تلج المرقد المعظم وتسابيح العبد الصالح الإمام الكاظم (ع).تبرم الناس من تخلي الحكومة عن تذليل صعوبات المعيشة وتوفير مبادئ الحياة الكريمة كأقل شرط انساني، واذن لماذا تحملنا كل شيء ولونا الشوارع بالبنفسج وأقمنا البرلمان، فهاهي هجرة مسيحيي العراق لا تنتهي كصلاة الكنائس (ربما الهجرة في الأصل مسيحية).يتوقف الفلم أيضاً ليمنح طائفة المندائيين المهمة وقتاً لنرى سلامة وبساطة عباداتها، عرض تعليمي لتعميد طفلة، شيخ يقرأ صلواته، آخر يتوجه بمجموعة للدعاء بخشوع، آه كم هو متسامح هذا البلد.وعندما تتسلق الكاميرا الدرب شمالاً تستجد معانٍ أكثر إشراقاً للحياة، ويتخلى الكادر عن الحماية المسلحة المرافقة له (نشعر الآن بطمأنينة) ولذا تبدو الأسئلة أوضح وأعمق وأكثر جدية.كركوك، المشكلة المختصرة لتاريخ العراق بما تحتويه من غنى وتنوع انساني يفرض تعاملاً لا يخرج من الإطار الوطني، وهي كذلك لم ينفعها النفط في شيء، والإهمال فيها يماثل مدن العراق الأخرى.يتسلل التعب للكاميرا فتستريح في جسد الطبيعة وتغفو عند زاخو بجانب راعٍ عجوز ينهمك بحواريات جميلة مع شياهه، وبعدما يداعبه المخرج بمشاكسات لطيفة، دون ترجمة وعلى سجيته يعود مطمئناً الى بيته، يركض مرحاً خلف شياهه، تلاحقه الكاميرا لتقف أمام عتبات المروج المخضرة أملاً في سلام دائم.
عرضه (صحبة السينما) في الديوانية..أغاني الغائبين قراءة لأوجه الحياة العراقية
نشر في: 22 سبتمبر, 2010: 04:56 م