د. مهدي صالح دوّاييشكّل الاستهلاك الفعّالية الأكثر تأثيراً في قرارات الناس ، لارتباطه المتعدد بقضاياهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية والتكنولوجية والصحية والدينية .... الخ ، ومايعزز تلك المساحة التي يشغلها ، هو تعدد الحاجات وتطورها وتشعبها ، مما يجعل من الاستهلاك قضية متطوّرة ، ومحورا للتنظير الفكري المتجدد زمنيا.
فقد حث الموروث الديني على مبدأ الاعتدال في الاستهلاك تماشيا مع الفلسفة الروحانية للدين الإسلامي ، والتي تتناغم مع العقول دون البطون ، وتؤسس لبناء النفس البشرية ومن خلالها المجتمعات الايجابية الفاعلة ، ومعظم الآثار الأدبية الخالدة قد لعبت على أوتار النزعة البشرية المتهالكة على إشباع الرغبات .rn وقد انتكست سمة الاعتدال الاستهلاكي للمرة الأولى بانتصار الرأسمالية فكرا وتطبيقا ، بفعل قوانينها المادية ، إذ أطلق العنان للرغبات الجامحة في ظل تفاوت طبقي صارخ ، وظروف تاريخية مواتية لنشأة الرأسمالية ، ولعل خير تجسيد لهذه الرؤية ماجاء به العالم الأمريكي ( روستو ) ، فنظريته عن مراحل النمو ، كانت غايتها النهائية ، وصول المجتمعات إلى مرحلة الاستهلاك الشعبي الوفير ، وهو ما تمثل واقعيا بالنمط الاستهلاكي للمجتمع الأمريكي ، وكانت الانتكاسة الثانية ، إيديولوجية ، عندما انهارت الأنظمة غير الرأسمالية في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين ، مما قاد الكثيرين للاعتقاد بان الرأسمالية هي النظام الأفضل ، وبالتالي الامتناع عن فحص أهدافه بصورة ناقدة رغم العديد من النواقص التي رصدها وانتقدها أنصار الرأسمالية أنفسهم . و يرى الأنصار إن التغير نحو القيم غير المادية يتأثر بـ ( تبدّل القيم عبر الأجيال ) ، إذ يؤكد الأفراد الذين يولدون ضمن مستويات عالية من الضمان المادي - التي توفرت في الرأسمالية المتطوّرة - الرفاهية (غير المادية) ، لأن التنشئة الاجتماعية خلال سني التكوين ، قد خلقت توجهات متأصلة بعمق نحو القيم ما بعد المادية ، وقد توصل باحثان أمريكيان إلى أن نسبة من تجاوب مع القيم ما بعد المادية باتت واضحة جدا ، إذ تضاعفت من 9% عام 1973 إلى 18% عام 1991 ، وهي الآن في مستوى يفوق الـ 25% . ويدخل في هذا الاتجاه ما اصطلح على تسميته بـ ( البساطة الإرادية ) ، التي وصفها احد أنصارها بأنها ( طريقة للحياة بسيطة خارجيا وغنية داخليا، ، إنها اختيار واع للحياة بما هو قليل على سبيل الاعتقاد بأننا سوف نستعيد المزيد من الحياة في أثناء هذه العملية ) ، ويسترسل هذا الكاتب في عقد مقارنة بين الفقر والتبسيط الإرادي حينما يوصف الفقر بأنه ليس اختياريا بينما البساطة اختيار واع ، وان الفقر كابح ، بينما البساطة عمل تحرري ، والفقر يولد معاني الضعف والسلبية واليأس ، في حين أن البساطة تربي التأهيل الشخصي والإبداع ، ومعنى الفرص المتاحة على الدوام . لقد تزامن مع طرح تلك الأفكار المزيد من الدعوات التي تراهن على اعتماد ثقافة ايجابية للاستهلاك قادرة على تحقيق قدر مناسب من العدالة الاجتماعية ، وتأمين متطلبات التنمية المستدامة من خلال التركيز على تأمين الحاجات غير المادية ( حاجات صديقة للبيئة ) ، فنجد أن العديد من ممارسات السياحة الخضراء ، وهندسة البناء المعاصرة ، وأنماط التغذية النباتية ، وممارسة الرياضة لجميع الأعمار ..، وغيرها قد ساهمت في التقليل من مظاهر الاستهلاك المظهري السيئة ، لاسيما ان معظم النظريات الاجتماعية والنفسية ومن قبلها الديانات السماوية تجزم بضعف العلاقة مابين السعادة والثراء .إن مدناً قد بالغت بماديات المعاصرة قد ركزت كثيراً على ثقافة الحجر دون ثقافة البشر ، مما ولّد انطباعا بالغربة الاجتماعية داخل البلدان ، وبدا إيقاع الحياة أسرع من نبضها الانسيابي الجميل ، فتولدت أنواع عديدة من الضغوط النفسية وأشكال متنوعة من أمراض العصر المزمنة ، وأصبحت أهداف المسرفين تتجه نحو الجزر الهادئة والعودة إلى حياة الفطرة ، من خلال أنماط البساطة الإرادية للاستهلاك .ويمتاز المجتمع العراقي – من خلال رصد تجربته التنموية المعاصرة – بنزعة استهلاكية غير منضبطة ، مردّها شدة التباين في مدخولاته المالية بين فترة وأخرى ، فعقد السبعينات بوفرته المالية ولّد شراهة استهلاكية لإشباع سلة حاجاته المادية والخدمية ، وبرغم أن تلك النزعة كانت مبررة في حينها ، إلا أنها بقيت سلوكا معتادا" للعقود اللاحقة التي شهدت انحسارا واضحا في مستويات المعيشة , فتعرض الفرد العراقي إلى أنواع من الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية ، أثرت بشكل واضح على ثقافته الاستهلاكية .وقد هيمنت بشكل مباشر ظروف الحصار الاقتصادي والهواجس الأمنية على الطبيعة الاستهلاكية للفرد العراقي ، إذ نجد أن سلم أولوياته يبتدئ بإشباع الحاجات الأساسية المبقية لجسده على قيد الحياة على حساب الحاجات المحفزة لقدراته العقلية والفكرية ، والملاحظ أن هنالك تجانسا في هذا السلوك لدى شرائح المجتمع كافة ، فحتى ذوو الدخول العالية ينهجون نمطا استهلاكيا في إطار إشباع الحاجات البايلوجية ، ولكن بدرجة عالية من البذخ ، ونتيجة لتلك السلوكيات فقد انحسرت إبداعات ال
نحو ثقافة استهلاكية إيجابية
نشر في: 27 سبتمبر, 2010: 06:29 م