TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى :المبني للمجهول بصفته فاعلاً خنثى

تلويحة المدى :المبني للمجهول بصفته فاعلاً خنثى

نشر في: 1 أكتوبر, 2010: 05:11 م

شاكر لعيبي لماذا يتراجع الفعل المبنيّ للمجهول، على نطاق واسع، من لغة الكتابة والصحافة والشعر؟. لا يمكن بالطبع للصيغة أن تغيب نهائياً من الاستخدام، كما في الفعل (قال، يُقال) مثلاً، التي تستجيب لضرورة الاحتمال والأسلوب في آن واحد.
 ليس الغياب مطلقاً ولكنه ظاهرة عامة يمكن ملاحظتها بسهولة. في المقابل يشيع استخدام المجهولية في اللغات الأخرى كالفرنسية سواءً في لغة التخاطب اليومي أو أسلوب الكتابة الصحفية والأدبية، ويختلط حتى بالصيغ الشرطية المعقَّدة التي لا يوجد لها مثيل في لسان العرب.لا بدّ من أن تَحْمِل الصيغة، بحد ذاتها، دلالة عميقة إذا لم يتعلق الأمر بـ "نظرية المعرفة". ولا بدّ من أن في قلة استخدامها تقليلاً من شأن دلالتها العميقة المفترَضة ومساً بالمعرفة. لعل أول دلالتها هي أنها تخفِّف من تحميل فاعل محدد مسؤولية الفعل، وأنها تسعى إلى جعل الأخير جنساً محايداً، خنثوياً، لا هو بالذكر ولا بالأنثى. في صيغة المبني للمجهول رؤية للعالم إذا لم نقل فلسفة مستترة تتعلق بنظام اللغة ونحوها اللذين يعملان للتعبير، بطريقتهما الخاصة، عن تصور ذهنيّ معين. يتفق الجميع على أن النظام اللغوي ليس محض وسائط اتصال بين الناس، إنما أيضاً وعي وفكر وفاعلية عقلية. هناك إذنْ ضرورتان، الأولى تواصلية والأخرى معرفية، ويمكن أن نضيف الجمالية دون حرج.وإذا ما كانت الأولى تقع في البداهة، فإن الثانية تقع في تاريخ النظام المرتبط بالتاريخ والميثيولوجيا الحاضرين كليهما في أنساق اللغة ونحوها ثم المرتبطين بطريقة ماكرة بفهم العالم وأشيائه. الجماليات تختلط بهذا كله ولا شأن لنا بها حالياً، إلا من باب الزعم أن صيغة المبني المجهول ثقيلة، مقعَّرة في اللغة العربية، والقول بوجود بدائل أكثر سلاسة منها. أمر لا تدل عليه النصوص العربية التراثية والكثير منها في غاية الرفعة والجمال واليسر.نتحدث عن (التغييب) وليس (الغياب) للمبنيّ للمجهول، وهذا ينطوي في الغالب الأعم على تغييب آخر، وعلى إفقار لعملية التواصل وتقعيد للعالم بصفته، فقط، فعلاً لفاعلين صارمين، حاضرين بإصرار. وينطوي كذلك على استبعاد للخنثوي، وإبعاد للنسبية الكونية المرافِقة على ما يبدو لأفعال الكائنات الحية. هل يتضمن الوعي العربي المعاصر السائد، المُعبَّر عنه بالأسلوب الرائج، تواصلاً ناقصاً وجنسانية ذكورية وعالماً من دون لُوَيْنات وظلال، بفاعليه الثابتين وزمنه المطلق؟. لا يتضمن السؤال الإجابة لكنه يبدو مشروعاً إلى حدّ كبير.تبدو اللغة وقواعدها تجربة للوجود، وليس تمريناً سهلاً. يقع البرهان يوما بعد آخر أن أدنى استخداماتها البريئة ليس بريئاً تماماً، فالعربية لغة تفضل المذكَّر حتى في المبني للمجهول، وفي صيغتي المثنى والجمع إذْ عندما ترد مفردة واحدة بالمذكر من بين عدة مفردات مؤنثة في جملة واحدة فلسوف يُعتبر الفاعلون جميعاً من الذكور. هذا الخيار دالّ. ودال بشكل خاص عندما تغيب عنه صيغة الجنس الثالث التي لا يمكن بالطبع مساءلة العربية عبرها لعدم وجودها الصريح فيها.في الكتابة الشعرية المحايثة يبدو تغييب المبني للمجهول متسقاً مع سردية خفيفة تتركّز على ساردٍ فردٍ يعلن يومياته، (أنا) مطلقة، غير آبهةٍ إلا بنفسها في الغالب. سارد يمشي خفيفاً في العالم من دون كثافةٍ، أو من دون مشكلة وجودية عميقة، إلا إذا اعتبرنا الخفة واليومي موقفاً وتعبيراً عن أزمة وجودية، ويمكن في حالات عدة اعتبارها. في سياق كهذا لا تُرى ضرورة لصيغة المبني للمجهول، لأن الثقل كله ممنوح للبداهة التي يجب قولها بصيغة نحوية ملائمة: اقتربَ من النهر وشَربَ من مائه قبل أن يطير، أو اقتربتُ وشربتُ وطرتُ، بدلاً من: أُقترِبَ من النهر وشُرِبَ من مائه قبل الطيران. هذا مثال مصطنع للتساؤل عن أيِّ الصيغ أقرب للمخيلة وأيّها أبعد عنها، أيّها تقترب من حركة الوجود ومن من بينها لا تفعل. لا نحر إجابة واثقة.بعيداً عن التحجُّر العقليّ والروح الأكاديميّ المتجهِّم، يبقى أن نتساءل فيما إذا كان تغييب المبني للمجهول واستبعاده، إذا كان صحيحاً، يشكل تطوُّراً مرغوباً به في اللغة أم تراجُعاً، يعبِّر بدوره عن تراجُع في مكان آخر، أعمق؟. هل أن هذا التغييب يشكِّل مرحلة غامضة في مسار العربية التي عليها، سواءً عبر التفكر المنطقيّ أو سطوة الاستخدام، أن تعيد تجديد نفسها ونفض ما لا حاجة لها به؟. وما هي بدائلها؟.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram