عواد ناصرحين تحسست حقيبتي، بعد أن عبرت الحدود (بين دولة العرفاء الكيماويين ودولة المجهول) تذكرتك، يا أخي، فإذا صورتك في أحوال عدة: متخفٍ عن أنظار الحكومة، بعثي متورط ببعثيته، مواطن يركض في خياله ليبلغ حقيقته، أو العكس.. شاعر اختار أن يبيع كلماته للدكتاتور قد يشتريها منه أو لا يشتريها، فنان طامح في الشهرة التي لا يحققها له أحد غير الدولة..
مثقف صامت بانتظار أن يمر صمته بسلام.. أو ذاك الذي توهّم نبوءته نوعاً من الخلاص المستحيل، وذاك المتخفي عن أنظار الناس، لا أنظار الحكومة، لكي يؤدي المطلوب بخنوع مدهش.الدكتاتور هو محصلة الخانعين.ثم صورتك وأنت تمارس الحياة بأقصى ممكناتها لتبلغ أدنى متاحاتها، أما صورتك الأكثر نبلاً وقد وصلتني في منفاي، فهي عبارتك في أحدى رسائلك: لقد نجوت بضميرك.صورتك الأكثر أنانية ووصولية هي شعورك المزدوج، المتناقض: تتهمني بالهرب كي أعيش منعّماً في أجمل عاصمة أوربية تاركاً الوطن والمواطنين في مأزقهم القاتل تحت نير الحرب والعسف والحصار، بينما تقف في الطابور منتظراً من يتسلم منك طلبك للجوء في أي دولة حتى لو كانت موريتانيا.. لتلتحق بشلة الخونة؟أحببتك في كل صورك، جلاداَ أو ضحية، لكنني لا أحترم الكثير منها، ذلك أن العاطفة شعور لا علاقة له بالوعد الملموس: وعد الجدل المهني.الجلاد ضحية أيضاً.. ضحية مهنته، التي اختارها، أو أُجبر عليها، لكنه في اللحظة الأخيرة قبلها في الحالين.من ناحيتي لست بطلاً لأدينك خائناً، ثمة أبطال مقيمون وخونة منفيون أو "منفيون"، والعكس صحيح، بالضبط، ولا أدافع عنك، لأنك بقيت مقيماً.. إنني أدافع عن الإثنين منا في تلك المنطقة المشتركة التي لم يحسن أحدنا، أو كلانا، الدفاع عنها: إنسانيتنا.كلانا خاض حروباً غير عادلة، لم نخترها، وحجم الثمن الذي دفعناه نسبي، لكننا، نحن الإثنين، دفعناه باهظاً، بين الإجبار والخيار.بالمناسبة: ثمة ما ندعوه خياراً هو أكثر اضطراراتنا قسوة.غادرت العراق في بداية شباط (فبراير) 1979 لألتحق بالثورة الفلسطينية في بيروت، وهي (الثورة) "الدولة" الوحيدة التي قبلتني بين دول العرب.. وعندما كنت أبحث في منتصف ليلها عن مكان يؤويني، كنت أنت لم تكمل كأسك العاشر، بعد، في الحانة، نفسها، التي ودعتك فيها قبل ثلاثة أيام، وثمة بيت في انتظارك وربما زوجة وأطفال وأم أخت، ووظيفة، اخترت البقاء معهم متنازلاً عن حريتك، وهذا ما اختلفنا عليه لأنني اخترت حريتي وتركت كل شيء خلفي.. وقد اخترت الاضطرار.. الاضطرار بمعناه الممكن الذي لم يتح لي أن أكون حراً في بلدي.أديت الخدمة الإلزامية، في العراق، ثلاث مرات: بعد تخرجي من معهد إعداد المعلمين، عام 1972، ثم عدت، بعد أن تسرحت، لأؤديها خدمة احتياط، ثم نصيراً في كردستان، والأخيرة كانت الأشق علي حيث معضلة الحرب الطبقية التي لا تعترف بأخوة البشر.. في الجيش لم أكن مقاتلاً، حيث لم تكن ثمة حرب، غير حرب العرب على الكرد، ونجوت منها بأعجوبة مرتين: كوني شيوعياً في الجيش كنت أنتظر إعدامي كل فجر يطلع، والثانية كيف سأطلق النار على كردي لا يعرف أنني من أنصار قضيته، رغم أنني جندي إجباري لا متطوع ولا ضابط ولا بعثي.. هذا الكردي سيطلق النار علي فوراً، إذا ظفر بي، لأنني جندي في جيش شوفيني، من وجهة نظره.أما في حرب الأنصار، ضمن ألوية البيشمه ركه الكردية، فقد حسمت أمري مبكراً، ما إن وطئت قدمي أرض كاوة الحداد، عندما نحيّت بندقيتي جانباً واخترت الكلمات.. الكلمات، حسب، عدة وعتاداً، لأعمل، صحفياً ومذيعاً، في إذاعة الحزب الشيوعي العراقي التي لا يسمعها أحد.كنت أحلم بحيادية الجبل العظيمة: على سفحيه المتجاورين يشن المتحاربون حروبهم.. أعرف أنها حيادية مستحيلة، فثمة جيش يذبح شعباً.كنت مثل كثير من الحالمين – الواهمين بأننا سنسقط دولة ونتقدم نحو بغداد لنشكل الحكومة الشعبية ونبني دولة على غرار دولة الأخ السوفيتي الأكبر، قبل أن أكتشف أنها من بين أسوأ دول العالم.لكنني أتشرف، بما هو نادر مما أتشرف به، لأني لم أطلق رصاصة واحدة، حتى في الهواء، من أيًّ من بندقيتيَّ، ولم أهدم، أو أشارك في هدم، حتى بيت عنكبوت حتى هذه اللحظة من حياتي.نشرت قبل أيام مقالاً قصيراً أبديت فيه إعجابي بتعريف الشاعر محمود درويش للمكان قال فيه:"... فقلت له والمكان يمرُّ كإيماءةٍ،ما المكان؟فقال: عثور الحواس على موطئٍ للبديهة...".من ناحيتي، حاولت حواسي، على تقشفها العراقي، العثور على مكان من هذا النوع فلم تجد.. بينما كان نجم صدام حسين يؤلف نفسه بمزيد من العناية الشيطانية والتدبر الميكافيللي ليصبح الحاكم المطلق، وقتذاك، فعثرت حواسي على البديهة خارج المكان ولم تعثر على المكان خارج البديهة فخرجت.البديهة؟البديهة هي أن يعثر المرء بالمكان على أشياء أو رموز أشياء بسيطة، كبديهة درويش، أم وشاي ونزهة مع أصدقاء وكتاب وكتابة وحبيبة وحفلة موسيقية ونقاش لا يهمس خوفاً وفطور صباحي تركه الأولاد على عجل وهم يركضون إلى مدارسهم.لا يزاودنّ أحد على أحد.. كلنا أبناء مشاريع مهزومة وفاشلة.. والرهان، أظنّ، على ما نحلم به، اليوم، فردياً، بعيداً عن دبيب القطيع.بنتي (14 عاماً) تحب العراق وأول رسمة رسمتها في مدرستها الإنكليزية هي علم العراق، و
من منفيٍّ إلى مقيم.. ازدواجية من بقي واضطرارات من غادر
نشر في: 9 أكتوبر, 2010: 07:31 م