سهيل سامي نادرقبل ثلاث سنوات تعرفت مصادفة على عمل للفنان الأردني محمد نصر الله ، وفتنني منه أن بساطته مدعومة بتقنية مثيرة لم أدرك طبيعتها للوهلة الأولى - بساطة تنحو منحى التركيز على شكل لا تدري إن كان مرسوما أم منحوتا جرى ضغطه على سطح ببعدين وبات جزءاً منه .
معرضه الأخير الذي أقامه في دار الأندى كان مناسبة لأن أتعرف على الفنان نفسه وطبيعة عمله السابق وعمله الجديد الذي اطلق العمل السابق الى فضاء جديد. عنوان المعرض: "ارض أخرى"، وكان واضحا ان الفنان يصف فيه تحولا من فضاء الى آخر - من فضاء اللوحة السابقة الى فضاء تجربة جديدة ، من فضاء صامت تقفز فيه مقذوفات غريبة ، إلى فضاء تنبعث منه مشاهد حلمية غنية ، من تعبيرية ملغزة ، الى سريالية تفتح اللغز من دون ان تحله. بيد أن هذا التحول ، وهو تحول عميق، وبدا كأنه اكتشاف، لا يتخلى عن الفضاء السابق حقا، بل ان الفنان يضم حركة الانتقال نفسها حتى تبدو ان التجربة بمجموعها تمثل سيرة شكلية وجمالية ، كما هي سيرة انتقال شخصي ووجداني من فضاء إلى آخر . إن هذا التعاضد بين الماضي والحاضر والمرور بمفاصله الانتقالية ، يطوي في داخله الأفكار الشخصية للفنان وطريقته في التعرف. لنصف الفضاء الأول قبل كل شيء : إنه يبدو عمقا مجردا تخطم فيه مقذوفات غريبة. ومن الناحية البصرية يبدو سطحا وظيفيا تظهر عليه هذه المقذوفات وتتحدد. الفنان لا يولي الاهتمام الى ذلك السطح الا من جهة الظهور المبين للمقذوفات، وحدها الأخيرة تظهر فكرة الفنان التعبيرية، أما خلفياتها فهي سطوح تكفل الوانها الكامدة ضيافة بارزة وظهوراً مثيراً لحركة الأشكال. إننا نرى أجسادا رهيفة منحوتة ومشغولة بدقة، الا اننا لن نكون على يقين من موقع ظهورها ولا من طبيعتها : قد تكون مخلب طائر ، ولربما هي نسر ، ولعلها خشبة معدة لارباك حواسنا في تحولات تشخيصية ، فلا هي الخشبة نفسها ، ولا هي طائر ، ولا مخلب طائر ، ولا هي عصا ، ولا شوكة ، أو لعلنا نحن نحطم مسرعين ولم يتبق لنا غير ذكرى عن شخص ودّعناه في التفاتة سريعة الى الخلف . حسن انها ذكرى ، جسد غامض يضيء في العتمة ، بالأحرى هيكل جسد يسقط عليه الضوء. إن تأثير هذه الأشكال يبقى في الذاكرة بسبب مادتها الغريبة التي تبدو من خشب . إن الفرق بين مادة السطح (الزيت) ومادة هذه الأشكال القريبة في لونها من الوان لب الخشب، يزيد من ظهورها المبين وتحددها الشكلي . بيد أن الاثارة الإضافية إننا لا نرى لهذه الأشكال بروزا على السطح المستوي، بل هي مستقرة في النسيج السطحي ومندمجة به على الرغم من اختلاف نسيجها المادي . وحده نجار متمكن من يصقل مادة خشبية وينعّمها ومن ثم يضغطها على نسيج آخر يختلف عنها . إن الحل التقني الذي يقدمه الفنان محمد نصر الله مثير حقا ، فهو يشيد تجربة جديدة في التلصيق (الكولاج) ، كما انه يقدم صياغة بصرية في تعدد النسيج وتنوع آثاره. إن جميع مقذوفات الفنان في أعماله السابقة تبدو حركة تعبيرية صامتة وغامضة على سطح يهبها الإطار العام ويجسد حركتها. أما الفضاء الثاني الذي نراه في تجربته الجديدة، فلنا أن نعده انفصالا من تعبيرية قائمة على تحرير أشكال وقذفها على السطوح الى تحول السطوح تحولا تعبيريا طبيعيا . هذا التحول يحول السطوح الى كيان كوكبي ما زال يتشكل . إن ما يحدث هو أن تلك الأشكال قد قامت برحلة فضائية ونزلت الى مكان غريب. انها تبدو كذلك سيرة جيولوجيا تصدر عن رثاثة صاخبة لشرائح هائلة تتراكب الواحدة فوق الأخرى ، لتستقر في مشاهد طبيعية كاملة وصامتة ، تبدو في بنائها العام أرضاً انبجست من رؤية او حلم، فردوسا يغرينا كي نستكشفه ، وربما هو ملجأ نذهب إليه بعد إخفاق . مستفيدا من تقنيته السابقة لم تعد اشكاله تبدو مصقولة على يد نجار ، فالتنظيم شبه الطبيعي لأعماله أفسح المجال لتعدد نسيجي مترابط ذي طبيعة تصويرية. وبينما كانت الأشكال رهيفة جداً ، مختزلة جدا ، ضمنت التحدد على سطح لا يقلقها ، فقد باتت الآن مساحات مشغولة بتفاصيل هائلة، مع تعدد لوني صار مطلوباً وملحاً . إن التقنية باتت تتعهد جميع السطوح في شغل مهندم يلح على التفاصيل وتعدد النسيج. ها نحن ازاء مهمة تسجيل أرض نزلناها تواً، بحرها ازرق كبحارنا ، لها هضاب سمراء وسوداء مثل هضابنا ، الا انها موحشة بعض الشيء ، موحشة كثيرا كواقع متعال ، كواقع سوريالي، لشخص يجرب مواءمة مؤلمة ، يجرب الامل، (مثل كل أمل يأتي متأخرا). في مواقع اخرى منها تبدو رثة جدا ، وما زالت تتشكل كأنها كوكب بدائي ، موعود لتحول شاق مؤلم هو الآخر. لنتذكر عنوان هذه التجربة : أرض أخرى! إن الفنان يوحي بأنه كان قد مثّل فعل مغادرة ، قام برحلة . وكما في كل رحلة ، كما في كل فعل أو رؤية جديدة، نكتشف أننا موصولون بذكرى ما ، بجسم ، بأرض غادرناها . يمثل الفنان الأرض الجديدة نفسها كتحول من سطوح فنية الى سطوح طبيعية مرعوبة وهياكل خاوية، ومنها الى مشهد ملون مثير . هل يجري البحث هنا عن الفردوس المفقود؟ ربما . إن الفراديس كلها غير مرئية، بل متخيلة. لتحسب المشاهد الحزينة التي تثير الصدمة على الانطب
عن أعمال محمد نصر الله.. رحلة إلى "أرض أخرى" وسيرة تحول!
نشر في: 31 أكتوبر, 2010: 06:34 م