علي النجار لندن لا يمكنني الحديث عن تجربة الفنان العراقي المنفي جودت حسيب بمعزل عن سيرة حياته الشخصية. أولا لعلاقتي الحميمة بشخصه منذ بداية مشوارنا الفني، وثانيا لكون نشاطه الفني الاجتماعي في النصف الأول من سيرته الفنية (العراقية) ارتبط أيضا بالسيرة الشخصية المتفاعلة
والمحيط التشكيلي العراقي في ذلك الوقت الذي تمتع فيه الفنان التشكيلي العراقي ببعض من الحرية الشخصية الضرورية لتفعيل الحركة الفنية. لقد كان، ومنذ سنوات دراسته الفنية في معهد الفنون الجميلة في بداية الستينيات، يتنازعه توجهان متقاربان فنيا ومختلفان أدائيا، هما الرسم والخط العربي. فبقدر ما كانت منطقة فن الرسم منفتحة على أساليب وممارسات فنية لا تحصى، كان فن الخط العربي في ذلك الوقت تحكمه قوانين ثابتة لا تتعدى الاجتهاد في صقل أنماطها (ما عدا اجتهادات الصكار). ولقد خضعتُ انأ أيضا لدرس ضوابط الخط في عام 1958 على يد الأستاذ التركي ماجد الزهدي، ومن ثم، أستاذنا القدير الخطاط هاشم البغدادي في العام الذي تلاه. لكن بقي جودت مخلصا لكلا الإبداعين في تلك الفترة، وأجاد فيهما.rn مفارقة: أحيانا ما نستعيد ذكرى ما من أيامنا الأولى فنكتشف أن فيها نبوءة مستقبلية، ربما تكون كذلك وربما يكون وهم التأويل هو من يغرينا بإعادة قراءتها بما يناسبنا: في صيف عام 1962، وفي بداية مشوارنا الفني، اتفقت مع جودت ورسام ثالث على تأسيس مرسم أو محترف لنا من اجل أن نتمكن من انجاز أعمالنا الفنية. وحصلنا فعلا على"دكان مناسب" في منطقة المربعة من شارع الرشيد ونفذنا بعض الرسوم، وكما في تلك الأيام كانت مزيجا من الجد والعبث. وكانت حصيلة تلك المحاولات معرضاً في إحد مقاهي بغداد الحديثة في منطقة السنك من شارع الرشيد وليس ببعيد عن مرسمنا. كان اسم المقهى وقتذاك "كازينو لوكانو". ولا غرابة في العرض في مقهى، إذ لم تكن توجد صالات عرض تخصصية في بغداد في ذلك الزمن. المهم، في يوم افتتاح المعرض أغلق الكازينو بأمر من السلطة المحلية، وبقيت رسومنا (لوحاتنا) معلقة إلى اجل غير معلوم، وحتى هذا الوقت. هذا المعرض- الذكرى ربما يفسر بعضا مما أصاب ذواتنا من تصدع موصول باغتراباتنا أو نفينا. ما بين النفي (المنفى) والاغتراب اعتقد أن ثمة فرقاً مفهومياً بسيطاً فيما بين مسالكهما، ورغم تشابه المنافي فهي اغترابات غالباً. وإن نعت جودت بالمنفي، فلأنه اختار منفاه الاسباني بنفسه بعد أن تعطل زمنه العراقي في نهاية السبعينيات حيث لم يكن يجد المثقف العراقي في تلك الفترة الزمنية أمامه سوى منافذ السلطة أو التحايل المُر أو الخَرَس. ولم يكن جودت، وكما عرفته وقتها، يتحمل التحايل أو الخرس، فنفى نفسه، لكنه استطاع قبل أن يغادر العراق أن يحقق حضورا على الساحة التشكيلية اضافة إلى نشاطه الاجتماعي في المساهمة بإدارة جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين لأكثر من دورة. اعتقد أن اهتمامات جودت بالخط العربي قادته إلى إجادة صناعة البوستر الفني وصولا إلى منافسة خيرة صنّاعِهِ من أمثال الفنانين العراقيين محمد مهر الدين، يحيى الشيخ، رافع الناصري، هاشم سمرجي وغيرهم. والخط العربي، لكونه محكوما بضوابطه الصارمة، فإن مجال اللعب على هذه الضوابط (القوانين) بدون تجاوزها يحتاج إلى حرفة عالية وخبرة لونية ومهارة ذوقية، هذه الشروط هي نفسها ما يجب أن تتوفر في صناعة البوستر اضافة إلى عملية المونتاج وفهم الآلية الطباعية. واشتغال جودت في تصميم إحدى المجلات الأسبوعية في بغداد (وعي العمال) ولزمن ليس بالقصير، اكسبه الخبرة اللازمة لمواصلة مشواره الفني في هذا المجال وراكم خبرته التي طورها لاحقا.rnالذي لا وطن له:حينما غادر جودت وطنه العراق كان يعرف جيدا أنه لن يعود إليه ما دامت الدكتاتورية قائمة، لذلك حاول جهده أن يحصل على وطن آخر يستطيع أن يواصل فيه معارفه الفنية فاختار كلية الفن في روما، لكن بعد عام من الدراسة اكتشف هشاشة نظام التعليم وعدم جدواه فيها وخاصة للدارسين الآتين من الخارج، فتحول إلى كلية (سان فرناندو) الاسبانية في مدريد، ولم يخنه اختياره الثاني. لكن بعد مرور سنتين (المهلة المحددة لإجراء التعادل) ولاحتياجه لبعض الوثائق العراقية لتعادل شهادة دراسته الأولى، خانه وطنه ايضا بفرض شرط الانتماء الى اتحاد طلبة السلطة آنذاك من اجل الحصول على اية وثيقة، لذا أبى ان يتنازل لذلك الشرط وترك الدراسة الرسمية واتجه الى الدراسة الحرة. وفي صيف سنة (1981)، وجد نفسه فجأة بدون ملاذ آمن حينما انتهت صلاحية جواز سفره العراقي. هو الذي نفى نفسه احتجاجا على سلطة الصوت الواحد وأبى التعامل مع مؤسسات هذه السلطة كافة وبضمنها سفاراتها في الخارج ، لم يكن أمامه إلا أن يخوض صراعا مريرا من اجل أن يفلت من قرار الترحيل (وإلى أين؟). استمر هذا الوضع الصعب لسنتين بالرغم من جهود الكثيرين وبضمنهم زوجته الاسبانية، إلى أن حصل على إقامة بصفة "بدون وطن". وان دونت هذه التفاصيل عن حياة احد مبدعي المنافي، فهي ليست سوى مثل ضمن آلاف الأمثلة التي تعر
الهجرة المستحيلة ـ التشكيل العراقي مثلا ..جودت حسيب: استعادة السيرة المغيبة
نشر في: 21 نوفمبر, 2010: 04:51 م