فيصل عبد اللهقاس. صادم. قاتم. مؤثر. ولك ان تضيف ما ترتئيه مناسباً من الأوصاف بعد مشاهدة شريط "الحفرة"، باكورة الصيني وانغ بينغ الروائية، والذي عرض ضمن فقرة المسابقة الرسمية لدورة مهرجان أبو ظبي السينمائي الرابعة(14-23 تشرين الأول/أكتوبر 2010).
إذ لا ينفع التململ وسط صالة سينما " مارينا مول" وأنت تعد دقائق الشريط الـ 109. ولا تجد في نفسك العزم بمتابعة خياراتك السينمائية الأخرى في عتمة ثانية. وكن مطمئناً ان ما شاهدته من صور ستلاحقك لفترة طويلة. وعليه تغدو الكلمات، وفي أحسن حالاتها، إزاء قوة ما قالته الكاميرا وسطرته على شاشة أصطلح على تسميتها بالفضية، ستكون شحيحة. قصة "الحفرة" حقيقية. وتفاصيل أحداثها ما زالت طي الكتمان الرسمي وخزائن ذاكرة بعض الناجين. ومنهم يانغ شيانهو الذي سطر بعضاً من تفاصيل تلك التجربة القاسية في كتابه "مع السلامة، جيابانجو"، معكسر إعادة التأهيل ومسرح وقائع شريط "الحفرة". وما كان من المخرج بينغ، والقادم من تجربة التوثيق السينمائي، سوى تلقف تلك المذكرات وأفلمتها. وفي شريط، أقل ما يقال عنه، إعادة لوقائع غابت عن السينما في حاضرنا المعولم. سلاح بينغ كان دربته التوثيقية، تلك التي تركها لضوء كاميرته الشحيح ان تقول الكلام المحرم. اقتفاء يوميات موت بطيء لاح بسوطه قدر مليون إنسان. لا صوت موسيقى تصويرية، بل أصوات حيوات تنازع الموت. تهمة هؤلاء كانت جاهزة، ومفادها انهم من "المنشقين" و "اليمينيين" مما يتطلب "إعادة تأهيلهم". هل حقاً كانت هناك معارضة او منشقون؟وقتها، بين الأعوام 1959 و 1963، ضربت الصين مجاعة كارثية. وراح ضحيتها أكثر من 30 مليون إنسان حسب تقديرات محافظة. إلا ان بينغ كثف عمله وأوجزه بثلاثة أشهر. وليحكي لنا عبر كاميرته يوميات هؤلاء "المنشقون" "اليمينيون" وسط حفر ترابية في صحراء غوبي شتاء العام 1960. قاسم تلك اليوميات المشترك هو البرد والجوع وصراع البقاء على قيد الحياة. ولكي يردم المسافة بين الصورة وموضوعها، عمد بينغ الى توظيف حوارات مقتضبة، بفضل نصه المكتوب بصرامة الحالة، وكانت أقرب الى زفرات النزع الأخير. في تلك الحفر يبدأ البوح اليسير، هناك نتعرف على ثوري أنتمى الى الحزب الشيوعي في العام 1938 وسجن بسبب معتقده السياسي. ومثله بروفيسور خطيئته زلة لسان، بقوله "دكتاتورية الطبقة العاملة" بدلاً من "دكتاتورية الشعب" حسب التعاليم الماوية. وعلى المنوال نفسه، تتكرر حكايا الآخرين ممن ساقهم حظهم العاثر الى تلك الحفر. وهناك، بعد توزيعهم على عنابر مرقمة بعناية، هكذا يبدأ الشريط، تصبح معركة البقاء على قيد الحياة رديفاً للموت. مواجهة محسومة سلفاً. لا فرق بين جرة قلم او وشاية، فقد شطبوا هؤلاء بسبب "يمينيتهم" من سجلات الأحياء بقرار سياسي. ولكونها معركة بقاء، يصبح تأمين المأكل عنوانها. إذ ان وجبة صحن الحساء الساخن، خليط من ماء مغلي وبقايا حبوب بالكاد يعثر عليها، لا يسد رمق هؤلاء الأحياء الأموات. وبالتالي يصبح البحث عن البدائل الغذائية ديدن اليوم. شرطاً أخلاقياً قاسياً يلغي التبطر من قاموسه. ما يدفع البعض الى أصطياد الفئران، وآخر ينبش بقايا قيئ عله يعثر عن حبة صالحة للأكل، او سرقة الملابس من أجل مبادلتها بمواد غذائية، نهش جثث من ماتوا حديثاً. كانت تلك المشاهد من أقسى مقاطع الشريط. بالمقابل، وكما يتابع الشريط وبشكل صارخ، ينعم المسؤول الحزبي بدفء مكتبه وطبق الماكرونة الساخن. إلا ان بينغ يكسر تلك اليوميات، وعبر الإنفتاح على العالم الخارجي. ومن خلال رسالة يكتبها أحد نزلاء تلك الحفر يطالب شقيقه بإرسال مواد غذائية. وظهور زوجة أحدهم لتسقط أخبار زوجها الذي وافته المنية قبل مجيئها، ما يدفعها للبحث عنه وسط مقابر لا شواخص لها في عرى صحراء غوبي. والقرار المفاجئ بتوفير الغذاء قبيل إطلاق سراح من بقي على قيد الحياة. ولكي يختم بينغ شريطه، فيُظهر مسؤول المعسكر يكلف أحد الناجين حزبياً بالبقاء.شريط "الحفرة"( إنتاج صيني فرنسي بلجيكي مشترك)، إدانة سينمائية وأخلاقية لقرار سياسي جرد بشراً من إنسانيتهم وكرامتهم وظلت قصصهم وعذاباتهم طي التحفظ. لذا أعاد بينغ وقائع مغيبة عن عالم السينما، وأهدى شريطه الى أرواح من حصدهم الموت. ومثلما تحفظت لجنة تحكيم مهرجان فينسيا الأخير، ترأسها كوينتن تارانتينو، على هذا العمل وعبر إختيارها لشريط "في مكان ما" لصوفيا كوبولا، وكللتها بأسد ذهبي. فان لجنة تحكيم مهرجان أبو ظبي للافلام الطويلة، هي الأخرى، لم تنصفه رغم انها منحت شريط "أرواح صامتة" للروسي أليكسي فيدروتشينكو جائزة "اللؤلؤة السوداء" لفئة أفضل فيلم وقدرها 100 ألف دولار أمريكي وباستحقاق. في عرضه الأول في مهرجان فينسيا، الدورة السابعة والستين، لم تجازف لجنة التحكيم بفتح معركة سياسية عنوانها حقوق الإنسان مع دولة عملاقة مثل الصين. و كان بالإمكان تعويضه في مهرجان أبو ظبي بطريقة تنصف كاميرا وجهد مخرجه.
شريط "الحفرة"..عندما تردم الكاميرا المسافة بين الصورة وموضوعها
نشر في: 24 نوفمبر, 2010: 05:25 م