رياض النعمانيوبكل ما أُتيت من بسالة وطاقة على استنفار ما تختزنه من قدرة وشراسة في مقارعة عدو يفاجئك كل مرة بمعنى ومبنى جديدين مختلفين .. عدو لا يقف عند حدود تعبير أو شكل واحد إنما تجده دائم الدخول في نهر من ظلام تحولات لا تنتهي .
أنت تحاول ـ بيأس من اختار صرح الخسارة الأخيرـ الاحتماء بما تبقى لديك من زمن وحطام كي تواجه هجمات تتدفق عليك بأمواج عاتية من رعب، ونُذر ومخاوف صُّراخ ، واختناقات وعتمة تقصيك عن رؤية جسدك وروحك ، وعواصف مآس تضيق في مداراتها فسحة ألأمل ، بل فسحة الهواء الذي تتنفس حتى أن النظرة التي تصوبها الى ما حولك تصطدم بجدار الهواء فترتد إليك .دوامات ومدارات من كل هذا الجنون واللامعقول ..، من كل هذا التدهور والعجز الذي يجردك من آخر أدوات الدفاع عن عناصر الحياة فيك ، وفي كل ما يمثله انتماءك للواقع والألفة والدفء والتكافل والمحبة من معنى هو ميزة حياة وحرارة الشرق الذي تحول في أعماقك الى غريزة تشدّك بقوة تُنسيك جميع تلك السنوات التي كنت تتعذب وتموت فيها .. سنوات كانت قد أُعدت بيقظة تامة وخبرة ومهارة وكفاية لا تتكرر حتى تكون هذه السنوات لا كما كنا نريدها أن تكون بل كما أرادوا لها أن تكون.. خراب.. فساد.. حطام، تآكل ، ضياع ، انعدام امكانات الفكر الحر في ظل سيادة عنف ديني يحرمك من أبسط حقوقك كأنسان وهي حرية الاختلاف، والرؤية المستقلة والانتماء الخاص.أنت الآن في امتحان عسير لمعنى وجودك الأول، وموقفك الأخلاقي من نفسك ومن العصر الذي تحياه . جارك المسيحي يُقتل دونما سبب .. تحاول أن تجد مبرراً لذلك .تحاول أن تفرغ نفسك من كل ما فيها حتى تصبح كتلة من هشاشة طاغية ... عدوك الأول اليوم بصيرتك التي تريد النفاذ الى قلب الأشياء متخطية ظاهر هذا الظلام الى أعماق ظلام آخر أشدّ فتكاً ، وهولاً أُعدّ لمستقبل هذه البلاد .كأن كل حقدهم ذاك بكل ما أحدثه من موت ومآس وحروب ودماء لم يكف لإشباع حقدهم على بلاد جريرتها وجريمتها الكبرى إنها اقترفت ذات يوم فكرة الحرية والحلم ، وأنها بنت لأرض الحكمة الأولى ـ بابل العظيمةـ ـ الى الأبد لن ننسى ما فعلته بابل ، وعليها أن تدفع حصتها من الدمار حتى النهاية .ذلك هو القسم الأكبر الذي يردده أُولئك الذين قرروا أن يكون الدرس مريراً ، وكأس السم خالصة ً، فكانت المذبحة التي لم تتوقف حتى اليوم ومنذ عام 1963،عام الانقلاب الرهيب .جارك وصاحب هذه الأرض الأول يُقتل دونما سبب.. يُقتل لأنه مسالم وشريف ونقي وطاهر ووطني مخلص.. يُقتل لا لشيء إلاّ ليكتمل مشروع تدمير العراق وإفراغه من ميزته الأصلية وهي تعددية أديانه وقومياته وأعراقه التي هي منبع حيويته وإبداعه الذي غيّر العالم . المُخطط لهذا المشروع اللا إنساني ، واللا أخلاقي الشرير لا يتوقف عن تنفيذ خطواته وفقراته حصار المسيحيين في الحياة السياسية والعامة.. إيصال هذا الحصار الى مدارسهم ومؤسساتهم ثم قتلهم في الشارع وأمام بيوتهم.. ليتسع بعد ذلك مدار هذا الموت الخاص الى الموت العام... تفجير كنائس، ثم قتل الناس فيها ، ثم تُفخّخ السيارات وأبواب البيوت بعبوات لاصقة تنفجر عند الخروج. ولا يكتفي القاتل بقتله هذا ، بل يندفع جماعات جماعات لذبح ما تبقى من هذه الشريحة ـ من أبناء البلاد الأصليين ـ في بيوتهم ، وفي غرف نومهم .ماذا يفعل رجل مسنُّ وامرأة عجوز تتضوع طيبة ونقاوة وضوءاً يسوعياً طاهراً وهما يجلسان وحيدين أمام الأيقونة على ضوء شموع العذراء.. بين روائح ودعة كتب مقدسة تفيض ضوعاً ونعمة وحكمة وقداسة ماذا يفعلان وهما وحيدان يواجهان هذا الرعب،غير أن يستسلما الى ذرى يأس يقذف بهما الى هاوية أُعدت لتكون قبراً مفتوحاً في ظلام الأبد. ماذا يُريد هذا القاتل ، وأي شيء يرمي من وراء قتله هذا؟هل هي القاعدة وحدها من يرتكب هذه المجازر الشنيعة؟هل هو العنف الديني ليس إلاّ؟أم أن قوة أخرى كارثية مهيمنة ، مزودة بسحر يشل أجهزة نقاط التفتيش ـ المزودة بأدوات لا تعمل ـ فتعبر الى أهدافها الكبرى والصغرى لتفجرها في وضح النهار ، أو في ليل لا يحتاج الى أجهزة الكهرباء المنقطعة 1بكلام نصفه دمع ونصفه الآخر حروف صامتةـ رجاءً لا تخبر أحداً بأننا من المسيحيين ـ يهمس لك جارك الطيب ، ثم ينسل الى بيته بخوف أحنى روحه قبل قامته .... عائلته تقوم بإسدال ستائر الغرف وتلتمّ على بعضها بخوف يجرح ضمير الحجر .ماذا يريد القاتل من هؤلاء المسالمين والأتقياء؟ هل هذا هو ثمن طيبة وصدق قلوبهم ونقائهم؟ هل هذا ما كانوا يأملونه ونأمله من عملية التغيير التي طال انتظارها ثلاثة عقود ونيّفاً مليئة بالدماء والدموع والأهوال ؟ أيُّ ألم هذا ..إلهي أي ألم ؟ أي بلاد هذه التي لم تقدم لأبنائها حتى ظلاماً آمناً ، وعطشاً محايداً ؟ هل هذه بلاد أم لعنة ؟ ما نوع القدر الذي يسوس مقاديرها ،.. والمسؤول عنها هل يظل مسؤولاً وطنياً عندما يتخلى عن مهمته في حماية مواطنيه ؟أي ُّ دين وأية شريعة بل أي عدالة ترضى بهذا العذاب الجهنمي وهذه الفاجعة التي تحصل
هنـا سنبقـى.. والـى الأبـد
نشر في: 30 نوفمبر, 2010: 05:00 م