طارق الجبورينستميح قادة احزابنا عذراً على هذا العنوان الذي قد يبدو استفزازياً بعض الشيء ، غير ان ما نمر به يفرض الابتعاد عن المجاملة غير المبررة والحديث بمنتهى الصراحة في قضية قد يتوقف على نتائجها مستقبل العراق . وابتداءً نجد الضرورة تقتضي المرور على طبيعة العلاقات التي كانت سائدة بين القوى السياسية ، ابان فترة الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي ، خاصة وان مثل هذا الموضوع قد يبدو شبه غامض ان لم نقل غائباً عن ذهنية الكثير من الشباب ،
في حين خبرته وعانته اجيال سبقتها سواء من عمل منهم بشؤون السياسة ام لا . أحزاب وتيارات حملت جميعها شعارات الديمقراطية والتحرر ، لكنها جميعاً اسهمت بضياع مفاهيمها بهذا الشكل او ذاك ، وبالتالي اضاعت علينا تحقيق الكثير من أهدافنا وطموحاتنا .من المعروف ان اللبنات الاولى لفكرة تأسيس معظم الاحزاب السياسية في العراق ومثلها في المحيط العربي بشكلها المعاصر وبمفاهيمها الحديثة بدأت بالتبلور والنضوج بعد انهيار الدولة العثمانية وانتصار الحلفاء واتفاقاتهم على تقسيم غنائم ( الرجل المريض ) في ما بينها ، وخوضهم معارك من نوع جديد مع المستعمر ( بكسر الميم الثانية ) للمطالبة بالاستقلال والحرية ، واستمر هذا النوع من الصراع حتى بعد تحقيق الاستقلال الشكلي لعدد من الدول وتشكيل حكومات ممالئة للاستعمار رغم كل ما فيها من عيوب الا انها ، وربما تقليداً لما في الغرب من نظم ليبرالية ، تبنت مظاهر في الديمقراطية لم تكن مألوفة سابقاً في مجتمعاتنا منها: تشريع دساتير وإجراء انتخابات نيابية واصدار قوانين لتنظيم العمل الحزبي وانتشار عدد من المطبوعات والصحف بما فيها صحف معارضة . وهنا لانختلف مع الكثير ممن يقولون ان كل هذه الاجراءات شكلية وصورية، ولم يكن هنالك إيمان حقيقي بالحريات وان الانتخابات شابها الكثير من التزوير ، والدستور كان في خدمة الطبقة الحاكمة و ، و الخ من المفاهيم والآراء التي أجمعت عليها كل الاحزاب والقوى الوطنية بمختلف نظرياتها الماركسية او القومية، غير ان هذا لايلغي حقيقة ان المواطن في انظمة ما قبل ( الثورات ) الوطنية تمتع او لمس بعض أشكال الديمقراطية ، التي لم يبق لها وجود في ظل الانظمة التقدمية ، ما يعني عجز الاحزاب الوطنية عن مواجهة الازمات الجديدة لها ومن أهمها مسألة الديمقراطيات والقضية الاجتماعية . وبشكل عام فإنه يمكن إجمال صورة المشهد السياسي في مرحلة الصراعات الوطنية من اجل الاستقلال ، بتيارين رئيسين الاول الاحزاب التقليدية احياناً التي كانت سائدة وكانت في الغالب ترتبط بمركز صنع القرار: الملك وحاشيته حتى وان دخلت المعارضة ومنها الدستوري والاحرار و الاستقلال وارتبطت هذه الاحزاب بشخصيات وزعامات معروفة آنذاك كنوري سعيد وتوفيق السويدي وصالح جبر ومحمد مهدي كبة وغيرهم، وتيار آخر كان يحمل نزعات يسارية مثل الحزب الوطني الديمقراطي بزعامة كامل الجادرجي والاتحاد الوطني بزعامة عبد الفتاح ابراهيم وحزب الشعب، إضافة الى تيارات دينية لم ترق الى مستوى الحزب ، فكان المهيمن على ساحة العمل السياسي تلك الاحزاب اليبرالية او اليسارية، التي اوجدت في بعض المراحل صيغاً من التنسيق والتفاهمات من اجل توحيد عملها مثل جبهة الاتحاد الوطني في العراق التي انفرط عقدها بعد ثورة 14تموز 1958. غير ان هذه الصيغة من العلاقة بين القوى السياسية تغيرت بدرجة كبيرة بعد نجاح "الثورات " الوطنية على يد الضباط الاحرار خصوصاً في مصر والعراق في 1952و1958على التوالي ، فراجت في اوساط مجتمعنا مفاهيم وثقافات جديدة بعيدة عن التوازن ، وصار كل طرف يستسهل اتهام الآخر بالعمالة للأجنبي ولا يتورع عن القيام بابشع التصفيات بحق مخالفيه في الرأي والعقيدة ، وانحصر النقاش بين هذه القوى على وفق مفهومين لاثالث لهما: الأسود والأبيض. وفي إطار هذه المفاهيم تمت تصفية الحسابات بين رفاق وحلفاء الامس ، ولم تتورع الانظمة باسم التقدمية من ارتكاب أبشع الجرائم وانتهاك الحريات وهدمت بسلوكياتها اللبنات الاولى للديمقراطية التي ولدت في رحم النظام الملكي مع ما تخلله من دسائس ومؤامرات استهدفت الحركات الوطنية آنذاك .وظل مشهد الصراعات هو السائد بين الحركات السياسية ، بل وسيطرت سياسة اللون الواحد بكل ما تعنيه الكلمة.. مشهد غريب وخطير، وثقافة إقصائية تركت آثارها عند الكثيرين ، وتحتاج الى إرادات قوية وأفكار جريئة قادرة على تجاوز تركات الماضي وتجاربه التي سقطت واثبتت فشلها لانها تخلت عن أهم عوامل الديمومة والبقاء المتمثلة بالديمقراطية . والآن ما الذي حصل بعد 2003 ؟ وهل استفادت الاحزاب من دروس وعبر الماضي القريب ؟ بكل أسف يمكن الاجابة بالنفي بكل بساطة ، فلا الاحزاب الاسلامية التي تسيدت الموقف تجاوزت عقد الماضي ولا الاحزاب العلمانية والليبرالية تخطت ازمة نظرياتها وتمكنت من نقد ممارساتها وتحالفاتها الذي افقدها الكثير من مواقع التأثير في المجتمع ، بل ان بعضها فقد التأثير حتى بين أوساط ظلت وعلى مدى عقود محسوبة عليه . إن العراق ومنذ 2003 نجح بتخطي مراحل صعبة ، غير ان هذا تم بفعل العمل على وفق مبدأ التوافقات لتخطي الازمات الذي نقر بضرورته المرحلية ، غير ان الصراحة تقتضي الاعتراف بان هذ
الاحزاب السياسية فـي العراق محنة.. الافكار وضعف الإرادات
نشر في: 20 ديسمبر, 2010: 05:26 م