جمال العتابي*المرحلة الستينية على أهميتها في تاريخ الأدب العراقي ، كانت تحتمل ظهور أسماء عديدة في ميادين الكتاب والفن، لم تكتنز تجاربهم بموروث إبداعي ذي امتداد أصيل، فولدت منقطعة الجذور ، ولم تتكرر محاولاتهم، وسرعان ما انكشفت حقيقتها ، وبانت هويتها، فبعضها زائف ومفتعل ،
وبعضها الآخر محاولات تجريبية ضمن موجة الحداثة التي وسمت تلك الحقبة ، لم يكتب لها النجاح في الاستمرار ، وعدد اكبر من ذلك لم تتوفر له سبل مواصلة الكتابة ومستلزماتها بسبب ظروف اجتماعية واقتصادية ونفسية قاهرة ، او لسبب الظروف السياسية التي دفعت الكثير إلى الهجرة قسراً، واختيار المنفى والغربة في ارض الله الواسعة، وكثـرة منهم مبدعون حقيقيون .تختزن ذاكرة أبناء ذلك الجيل أمثلة عديدة لأعمال أدبية ولدت خارج السياقات الثقافية ، مشوهة ومبتورة . هل يمكننا نسيان الديوان الشعري (هواء العالم) لـ (شاعرة) ، لم تكتب قبل صدوره او بعده بيتاً واحداً من الشعر؟ في حين كانت لغة القصائد (كونية) ، غامضة في المضمون ، ومتجاوزة في الأسلوب ، أوحت حينذاك إنها مكتوبة بلغة شاعر آخر معروف اكتظت بالطلاسم والمعميات غير المفهومة . إلا أن تلك الفترة شهدت تفجير اكبر قدر من الحرية الفكرية والإبداع داخل الثقافة بالذات ، ونهاية الوصاية الأيدولوجية والحزبية على الناس على حد وصف فاضل العزاوي في مؤلفه(الروح الحية) ، الذي يعد شهادة مهمة في رصد وتشخيص ملامح حركة التجديد في الأدب العراقي ، في المرحلة الستينية . واصفاً إياها بـ (الانتفاضة الثقافية)، أو (الروح الجديدة) داخل المجتمع العراقي ، مؤكداً(عراقية الظاهرة) ، لكنها لم تحدث بمعزل عن (الروح الجديدة) التي كانت تعصف بالعالم كله حينذاك ، فقد اتفقت الشروط الداخلية مع الشروط الخارجية ضمن لحظة تاريخية نادرة المثال بطريقة يصعب الفصل بينها ، في تلك الأيام بدأ العالم وكأنه يسجل مصيراً جديداً للبشرية كلها . ويكاد يتفق سامي مهدي في كتابه (الموجة الصاخبة) مع العزاوي حين يشير كذلك الى الظروف التي أنتجت (حركة التجديد) في الثقافة العراقية ، اذ يرى : أنها لم تظهر اعتباطاً ، بل كانت حركة جيل شكلته ظروف ذاتية وموضوعية خاصة ، ولكن ثمة حقيقة لابد من الإشارة اليها، وهي ان ادباء الجيل الجديد لم يكونوا على الدرجة نفسها من الموهبة والحيوية والثقافة والوعي والإنتاج والقدرة على الحركة والحوار والمناظرة . وهو ما يؤيد قولنا المار الذكر ، الذي نبه الى نقص التجربة وعدم نضجها عند البعض من أبناء ذلك الجيل . ولعل تجربة الشاعر عبد القادر العزاوي في ديوانه الشعري الوحيد (في الرأس قصائد) صدر عام 1970 . تعطي المثل الأوضح لنماذج من تلك المحاولات التي ظهرت وسط تلك الأجواء .ان قراءة متأنية لحياة (قدوري العظيم) ، تقودنا الى التوقف عند الأسباب التي خلقت من عبد القادر شاعراً ، ليتجرأ وسط الاحتدام الإبداعي ان يصدر ديوانه الوحيد ، بعد ان نشرت مجلة (الكلمة) و (الف باء) بضع قصائد له ، سبقتها جريدة (الثورة العربية) في النشر كذلك . لم يحظ العزاوي بنصيب وافر من الاهتمام عبر كتابات وشهادات عديدة للمرحلة الستينية ، فـ (الروح الحية) لفاضل العزاوي، و (العودة الى كاردينيا) لفوزي كريم ، خلت من أية أشارة اليه سوى تلك الأخبار العابرة التي نقلها سامي مهدي في (الموجة الصاخبة)، لعدد من الادباء كانوا يترددون على المقاهي الادبية ، ومن بينهم عبد القادر العزاوي، والإشارة الوحيدة التي تناولت كتاب جريدة (الثورة العربية) التي كانت تصدر عام 1966 . وظلوا يتواصلون معها ،وكان العزاوي احدهم .وعبر محاولة البحث عن اسم (العزاوي) على شبكة الانترنت ، والمواقع الأدبية ، لم أجد إشارة واحدة عنه للأسف الشديد ، لذا ارى من الإنصاف عدم تجاهل تلك التجربة ، او تناسيها ، على امل ان تشكل اسهامة متواضعة ، تدعو النقاد الى اغنائها بأضافات نقدية جديدة ، كمسؤولية ثقافية وأخلاقية لتسجيل تاريخ الحركة الادبية العراقية برموزها ومنجزها المهم . العزاوي الخارج تواً من سجن (نقرة السلمان) الصحراوي ، بعد ان امضى عدة سنوات محكوماً بسبب انتمائه اليساري ، وانحداره الطبقي كعامل في احد افران الخبز ، اثر انقلاب شباط الدموي عام 1963 ، السجن كان (مكتظاً) بنخبة من ابرز مثقفي العراق ومفكريه وعلمائه من اطباء واساتذة ومهندسين ، وقادة عسكريين ، ويبدو ان تلك السنوات على قسوتها ، هي الاهم في حياة عبد القادر ، فعمقت وعيه ، وفتحت بصيرته ، وكثفت قراءاته ، فتسعت رؤاه ، متأثراً بلا شك بتجارب ناضجة لزملاء شاركوه السجن ، وكانوا مثلاً له في السلوك والتفكير .لقد قدم الكاتب جاسم المطير شهادة حية وصادقة تنبض بالمرارة لتلك التجربة التي خاضها كسجين في كتابه (نقرة السلمان). يقول المطير : (في الذاكرة توجد طلائع متقدة برغبة حارة في ان تجعل عالم السجن عالماً آخر معززاً بالعلم والمعرفة)... (انهم فرحون ومسرورون لان الحرس القومي لم يستطع إنهاء حياتهم) !!! في السجن العديد من الأميين تعلم القراءة والكتابة ، يقول المطير : ان احد الحلاقين كان اسمه (علي الحلاق) ، وقد اقترح على نفسه ان يغير اسمه ليجعله (علي الحلاق
عبد القادر العزاوي..عامل المخبز الذي صيّرته "نقرة السلمان" شاعراً
نشر في: 26 ديسمبر, 2010: 04:46 م