المدى الثقافييعتمد الشاعر واثق الجلبي في مجموعته (تسبيحة عارية ) على قصيدة البحور او كما نسميها بالقصيدة العمودية التي تمثل الشكل الشعري العربي المتميز ببحوره الستة عشرة،وهو شاعر متمكن من استباحة هذا الشكل بلغة شفيفة ومميزة متنقلا مابين البحور بثقة عارمة واتزان واثق الخطوات يمكنه ان يعبر من بحر إلى بحر آخر مخترقا أمواج البحور بلا تردد وكما يقول الشاعر العربي ( من يركب البحر لا يخشى من الغرق ِ) فيقول / صحيح برأسي شيب وفأس / فيا ليتها كانت القاضية / أودع نعشي اذا ما رحلت / بتسبيحة طفلة عارية .
هكذا يعبر واثق الجلبي من الوقوف بوجه الموت بفرحة عارية غير لائذ الا بتسبيحة من طفلة عارية التي تمثل قمة البراءة ،وهي انعكاسات غير مرئية في اللاوعي الذي يبشر الشاعر نفسه ببلوغ تلك المنزلة .أيكم يرفض هذي التبعية / ايكم يرفض ان تبقى يداه / مقلة يأكلها الجوع وتبقى صرخة الجرف بعقل العبقرية / يستنهض واثق الجلبي المواقف المشرفة في ضمير البشرية ويسأل بكل مايملك من صوت حول قوة الكلمة والموقف المشرف / طافت الأحجار حول الكلمة / دارت الأبصار حول الكلمة / كل هذي قهوة العمر واني رشفة الآخر فيها / فدعوني انصر الله .الشاعر الذي يؤمن باي معتقد مهما كان ذلك المعتقد او ذاك الفكر يحاول جاهدا ان يستبيح كل ما هو ممكن في سبيل ان يرتكز على تلك الافكار او المعتقدات لذلك هو مسكون بهذا الهاجس الذي يلتف من حوله ليتلو ابتهالاته النقيه بالكلمات النابضات بالحب والصلة الدائمة بمن يحب .ففي قصيدة وجع يتلو الجلبي أوجاعه وفجيعته / ياام ارغد هل لنا بلد / ينعى اذا ما فاتنا بلد ؟ /او هل لنا حجر فنسكنها / والكوفة الحمراء تتقد / الشعراء أول الناس تحسسا بلآلام لأنهم يمتكلون مجسات عالية جدا وفاضحة جدا لا تستكين حتى تعلن ان الذي سيحدث قريبا او إننا بين لحظة وأخرى سندرك حجم الخسارات المؤلمة ،ذلك هو صوت الشاعر الذي يشاكس الواقع باللاواقع ،الوعي باللاوعي ، الثورة بلا أسلحة ،المشي فوق الجمر ، الوقوف على حافة العالم اللامتناهي ،هو الشاعر الذي يقول لتنتبه الكائنات من حوله وتتقي او تعمل وتدرك ما يقول . ما استوقفني كثيرا في هذه المجموعة قصيدة "حافظة الأسرار" وتمنيت ان تكون قصائد هذه المجموعة كتلك المعاني والاستدراكات والتشبيهات والطرق على وجه الزمن الصدئ ،وهي قصيدة حوار مابين الله والإنسان هي مجموعة تساؤلات منثورة في سماء غير متناهية للموت والحياة ،للعثرات والملاذات ،للفقراء الذين يملؤون هذه الأرض دون ان يسد رمقهم احد ،لهذا السؤال المفزع / نم هانئا يا إصبع الأنبياء ففي هذا المساء لم يبق لنا إلا الانتظار / كم يشكل هذا الطرح المؤلم بل هي صرخة عارية من كل خوف في وجه الطبيعة ان لا تكوني قاهرة جدا فلم نجد من ينجدنا وما لنا سوى الانتظار / الثور مازال يجر ناقوس الخور والدمية العرجاء ماتزال تقص حكاياها على البشر الا من المطر ؟ / موتوا كالحصى المنقع بالبخور وعلى ظهور النخيل تلتف الأفاعي وحشرجة الدوران تقص أصابع الطابور .. هل تكتفي ؟ ....... لا أظل في كنف الاغتراف أصلي مرتشفا واضع مسبحتي لاخوفا ولكنني اخشى الزوايا .الشعر هو الصورة المكتشفة من قبل الشاعر وهي المسكونة بالخوف والرغبة والدهشة بعيدة عن العيون التي لا تتحسس الضوء ولا تطرح الأسئلة وكذلك تكون نفس الشاعر متمردة لا تتقي اي قدرة مهما كانت تلك،لأنها لها قدرات فائقة في الوعي والمعرفة وكشف مواطن الجمال وهي مهمة عسيرة غير سهلة ، إنها تسبيحة عارية تتصل بما هو غير مكتشف وتحاول ان تجتاز جميع القناطر بل تعبرها بلا استئذان.
تسبيحة عارية .. الناقوسُ قهقهة ُطفلٍ أخرس
نشر في: 27 ديسمبر, 2010: 05:04 م