حازم مبيضينمؤلم كل هذا الاغتيال لروح بغداد وألقها والذي يتبدى هذه الأيام باندثار المقاهي التاريخية كمقهى البرازيلية, الذي شهدت جدرانه ومقاعده الكثير من الحوارات بين السياب والجواهري والبياتي وحسين مردان وغيرهم, ومقهى عارف أغا الواقع في شارع الرشيد في منطقة الحيدر خانة, ومقهى حجي ياسين في الباب الشرقي, ومقهى أبو الشراش في ساحة الرصافي, وهي تحولت جميعاً إلى محلات للأدوات الكهربائية، مثل مقهى البلدية في الميدان ومقهى البيروتي بجانب الكرخ، ومقهى الآداب في باب المعظم.
حين كنا نزور بغداد, نحسب أن الزيارة لم تتم إن لم نشرب استكان شاي عند حسن عجمي أو نستمع لأغنيات أم كلثوم في المقهى الذي يحمل اسمها, أو نستريح بعد جولة مطولة في شارع المتنبي في مقهى الشاهبندر, وكنت دائم الاحساس أن أصدقاءنا من المثقفين والصحفيين العراقيين, كانوا يحرصون على أن نزور تلك المقاهي التي ما زالت تحتفظ بروائح وصدى أصوات من مر بها من الأدباء والمثقفين، الذين كانوا يقصدونها لمناقشة مختلف القضايا الأدبية والثقافية، ويتناولون بالبحث آخر الإصدارات ويقيمون ما نشر من القصائد والقصص والمقالات.قبل عقدين من الزمان, وحين تدفق الكثير من مثقفي العراق على العاصمة الاردنية, فانهم أحيوا مقاهيها التي كانت تحتضر, أقصد تلك المقاهي العتيقة في وسط المدينة, والتي كان التقليد الاعمى قد استبدلها عند الاردنيين بأخرى لالون لها ولا طعم, وتحولت بعض المقاهي في العاصمة الاردنية كما في دمشق إلى عناوين للعراقيين المهاجرين, تلك ثقافة عندهم, لن تمسحها أو تلغيها مليارات الدنانير التي تدفع ثمنا لتحويلها إلى غير وظيفتها, ونعرف أنه في تلك الاثناء وما مر بعدها من ظروف صعبة وانفلات أمني, فإن الأدباء والمثقفين العراقيين ظلوا يواظبون على التوافد على المقاهي التي اعتادوا الاجتماع فيها. ذات طفرة في عاصمة الأمويين, اشترى تاجر واحداً من المقاهي التاريخية, وبدأ بتحويله إلى محل لبيع الملابس, غير أن المعنيين في أمانة دمشق انتبهوا فمنعوا هدم تاريخ ما زال ينبض بالحياة, ويستذكر تشكيل أحزاب وولادة حكومات, وأعادوا المكان إلى ما كان عليه, وسمحوا لصاحب المقهى برفع أسعار المشروبات التي يقدمها للزبائن، ليظل مقهاه شاهداً على أحداث أثرت في مسيرة البلد. وذات طفرة في عمان تم اغتيال مقهى الجامعة العربية الذي كانت خطابات الحزبيين تنطلق من شرفاته في خمسينيات القرن الماضي, ليستمع اليها المتظاهرون الذين اعتادوا التجمع في ساحة المسجد الحسيني قرب ذلك المقهى الذي ما يزال عنواناً للساحة رغم انقضاء عدة أعوام على هدمه. لانعرف من هو المسؤول عن إعادة الحياة لمقاهي بغداد باعتبارها من سمات عاصمة الرشيد, ومن الذي يجب أن يعمل على إعادة بنائها, خاصة إن كانت ملتقى الأدباء والمثقفين، فهي كما يقول واحد من هؤلاء, جزء من تاريخ العراق، وهي إحدى العلامات البارزة في عاصمة الرشيد, ويعتبر آخر أنها أضافت الكثير إلى الحركة الثقافية والإبداعية في العراق، إذ إنها لم تكن استراحات لاحتساء الشاي والقهوة، بل كانت تجمعات للاستزادة والتفاعل الثقافي والمعرفي.بغداد بدون مقاهيها التاريخية ستكون مثل مسجد بغير مئذنة, أو كنيسة من دون جرس.
مقـــاهــي بغــداد
نشر في: 9 يناير, 2011: 08:05 م