سعد هاديظلت الـ"إيقونات" الدينية ترمز لقرون الى الفضائل المثالية: كالطهر والقدسية والتقوى، اما في العصر الحديث فإن العلمانية استبدلت المعبودات القديمة بالمشاهير وأسمتهم "إيقونات" أيضاً. همفري بوغارت على سبيل المثال هو "إيقونة". انه يجسد فضائل العصر الحديث في الصلابة والإستقامة والتي تخاطب ثقافياً وعاطفياً أخيلة المشاهدين. ولكن لكي تصبح "إيقونة" حقيقية وأن يستمر ايمان المتعبدين بك خلال العقود التي تعقب موتك، ينبغي أن تكون انساناً أولاً، تعكس نقاط الضعف والوهن التي يراها المريدون في أنفسهم.
ان الإيقونات لا تولد مكتملة تماماً، فقد تمر عقود قبل أن تتطور صورة ما لكي يتعلق بها الناس. لقد بدأ بوغارت عمله في المسرح، كان يمثل بأستمرار شخصيات رجال من الطبقة العليا، عاكساً خلفية عائلته ذات الامتيازات، بالإضافة الى ما كان عليه من وسامة في شبابه، لقد واجه نجاحاً معقولاً في فتوحاته المسرحية المبكرة تلك ولكنه شعر بأنه محاصر بفخ النمطية الأدائية. وعندما اختار طريقه بعد ذلك غرباً الى هوليوود عام 1930 لم يحدث ما هو أفضل، فالأدوار التي أعطيت له في أفلام شركتي "فوكس" ثم في "كولومبيا" هي أدوار الهامشي أو الناعم، استناداً الى ما صرح به هو نفسه، لذا فقد عاد ثانية الى نيويورك والى خشبة المسرح.ان الدور الذي شكل به بوغارت ذاتيا صورة "الرجل القاسي" التي يأتي المشاهدون للتبرك بها كان دور "دوك مانتي" في مسرحية الحقل المتحجر لروبرت إي شيروود التي قدمت على المسرح عام 1935، ثم لاحقاً في الفيلم المقتبس عن المسرحية في عام 1936(كان من بطولة بيتي ديفز وأخراج: آرتشي مايو)، لقد انتزع بوغارت نفسه بشكل لا رجعة فيه من خلفيته الطبقية كإبن ذوات، ليرسم بدلاً عنها في ظل خيبته كممثل ومعاناته(سيئة السمعة حتى ذلك الحين) ما يجسد رجل العصابات المعقد الذي يتأرجح بين العنف والانحطاط والذي ترتسم على وجهه وهيئته ملامح القلق. وبرغم أن بوغارت حصل على تقريظ من النقاد في دور "دوك مانتي"، فأن شركة "وارنر بروس" التي ارتبط معها بعقد، واصلت "قولبته" الى حد ما في أدوار ذات بعد واحد: لصاً في أفلام (ملائكة بوجوه قذرة-1938، العشرينيات الصاخبة-1939، الأخ أورتشيد..الخ) يتبع جيمس كاغني وأدور جي روبنسون. ولقد قاتل بوغارت بأسنانه واظافره (بكلماته هو) لكي ينال عقداً مكتوباً كما حصلت عليه بيتي ديفز. في ذلك الوقت كانت حياته الشخصية قد وصلت الى الفوضى، كان ينجذب دائماً الى النساء القويات ذوات النزعة العدوانية الشبيهات الى حد ما بأمه، ولكن زوجته الثالثة الممثلة "مايو ميثوت" كانت اكثر مما يتحمل، كانت تقاتله بصخب وتحبه بشكل عنيف ، كلاهما كان يفرط في الشراب مثلما كانا يتشاركان ايضاً في الحقل الابداعي نفسه. لقد اصغى بوغارت الى نصيحتها حين شجعته على ان يستمر بالقتال من اجل ادوار تحمل نزعة التحدي، وأدى هذا الى حصوله على دور رجل العصابات المسن "روي أيرل في فيلم: (High Sierra) الذي أخرجه راؤول وولش عام 1941 بعد أن رفض كل من "باول موني" و"جورج رافت" ذلك الدور. حصل الفيلم على نجاح نقدي وكذلك على نجاح تجاري ومنح ذلك بوغارت دورين متميزيين تاليين: الأول عام 1941 مع المخرج- الكاتب جون هيوستون في شخصية العميل السري الحاد "سام سبيد" في رواية "الصقر المالطي" لداشيل هامشيت، والثاني في أكثر ادواره إيقونية: شخصية "ريك بلاين" المهاجر المنبوذ في فيلم كازابلانكا، الذي أخرجه مايكل كورتيز عام 1942. مع هذين الدورين المفصليين استعاد بوغارت شخصية الرجل القاسي المليئة بالقلق كما قام ايضا بصياغة الإنموذج لشخصية البطل في افلام الجريمة(film noir) خلال الاربعينيات.لقد استمر بوغارت بصقل شخصيته كبطل نويريشي(noirish نسبة الى noir) طوال عمله السينمائي اللاحق وخاصة بعد اقترانه بزوجته الأخيرة الممثلة ذات الشهرة الواسعة "لورين باغال"، وهي أمرأة قوية أخرى في حياته. ومعها لم يمثل فقط ثلاثة افلام من نوع (film noir) وهي: أن تملك أو أن لا تملك-1944، النوم العميق-1946، الممر المظلم-1947، بل ساعد على انشاء جماعة من العاملين في الأفلام الذين سافروا الى العاصمة واشنطون لمعارضة حملة السيناتور ماكارثي ولجنة مكافحة النشاطات المعادية لأمريكا. وبرغم نشوء خلافات بشأن ما فعله بوغارت بين صناع السينما المرعوبين إلا ان ذلك أضاف شيئاً آخر الى أيقونته المجسدة، لقد اصبح الكائن الإيقوني الذي يدافع عن المضطهدين.اما في عام 1952 فلقد منح أقرانه تمثاله الإيقوني جائزة أوسكار تقديراً لمهاراته كممثل (عن دوره في فيلم الملكة الافريقية الذي اخرجه جون هيوستون عام 1951 وأدت دور البطولة فيه كاترين هيبورن) كما نال مديحا مفرطا من النقاد عن تجسيده لدور القبطان المصاب بالذهان "كويغ" في فيلم "تمرد كين 1954"، وبرغم أن بوغارت مات لإصابته بالسرطان عام 1957، الا أدواره تلك رسخت اسطورته، أن تلك الأسطورة لم تمت معه، ما السبب؟، ببساطة لأن بوغارت كان قد أصبح إيقونة.قالت عنه الممثلة "ماري استور" التي مثلت معه عدداً من الافلام من بينها "الصقر المالطي": انه هناك ، في مكانه الصحيح على الشاشة، يقول ما يريد أي شخص أن يقوله اليوم، ي
همفري بوغارت: انه هناك، في مكانه الصحيح على الشاشة
نشر في: 26 يناير, 2011: 05:40 م